سجون الأسد.. من مسارح الجريمة إلى استديوهات التصوير
28 فبراير 2025
أثار الإعلان عن بدء تصوير مسلسل "قيصر" في سوريا موجة انتقادات واسعة النطاق. فالفكرة غريبة سواء من ناحية الطرح أو التوقيت، أو حتى من ناحية اختيار فريق العمل، حيث سيتم التصوير داخل سجون حقيقية شهدت انتهاكات، وذلك لإضفاء أقصى درجات الواقعية على الأحداث. غير أن هذا الأمر يرقى إلى العبث بأدلة تثبت وقوع انتهاكات ممنهجة داخل سجون الأسد، ما يضعنا أمام نقاش جاد حول أخلاقيات الإنتاج الدرامي في سوريا وشرعية التصوير داخل أماكن شهدت تلك الفظائع.
يستمد العمل عنوانه من شخصية قيصر الواقعية، وهو المساعد الأول في الشرطة العسكرية بدمشق، فريد المذهان، الذي قام بتسريب نحو 55 ألف صورة جمعها بين عامي 2011 و2013، وكانت دليلًا دامغًا على جرائم نظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد، بحق المعتقلين. وصفها قيصر في أول ظهور إعلامي له بأنها "آلة قتل لا تنتمي للبشرية".
وتحت وطأة الانتقادات التي طالت صُنّاع العمل، أعلنت "اللجنة الوطنية للدراما" أنه "تقرر إيقاف العمل على المسلسل بشكل مؤقت، حتى تغيير اسمه وإعادة النظر في قائمة المشاركين فيه"، ما يعني أن المسلسل لا يزال قائمًا، وأن الإشكال الرئيسي يتعلق بطاقم التمثيل وليس بالعمل نفسه. المسلسل مؤلف من 10 أجزاء، كل جزء يتكون من ثلاث حلقات، وهو من إخراج صفوان مصطفى نعمو، المعروف أكثر بإخراج أغاني ربيع الأسمر وعلي الديك. وتركزت الانتقادات بشكل خاص على اختيار غسان مسعود، نظرًا لمواقفه المؤيدة للنظام السابق، إلى جانب الجوانب القانونية والحقوقية والنفسية المتعلقة بإنتاج المسلسل.
مما لا شك فيه أن اختيار طاقم العمل سجونًا شهدت جرائم ضد الإنسانية كموقع للتصوير ليس مجرد تفصيل فني، بل يرقى إلى العبث بأدلة جنائية قد تُستخدم يومًا ما في محاكمة المتورطين بهذه الجرائم
لا شك أن اختيار سجون شهدت جرائم ضد الإنسانية كمواقع للتصوير ليس مجرد تفصيل فني، بل يرقى إلى العبث بأدلة جنائية قد تُستخدم يومًا ما في محاكمة المتورطين بهذه الجرائم. يؤكد القانون الدولي أن مسارح الجريمة تُعد "أدلة حساسة"، وينطبق هذا بالتالي على سجون الأسد. لذا، فإن أي تغيير في معالمها أو استخدامها في إنتاج درامي قد يؤثر على التحقيقات المستقبلية، ومن المفترض أن يُعرّض القائمين على هذا الاستخدام للمساءلة الأخلاقية قبل القانونية.
هذه ليست المرة الأولى التي تُستخدم فيها سجون الأسد لأغراض ترفيهية وتسويقية بزعم التضامن مع المعتقلين. قبل نحو أسبوعين، وافقت الحكومة الانتقالية على إقامة فعالية "الإشهار الرسمي لمؤسسة رابطة معتقلي الثورة السورية داخل سجن صيدنايا، الذي لطالما وُصف بــ"المسلخ البشري" حيث قضى آلاف السوريين نحبهم تحت التعذيب. هذه القرارات العشوائية تثير تساؤلات ملحة حول جدية الحكومة الانتقالية في التعامل مع ملف العدالة الانتقالية، وإن كان لديها أساسًا نهج يراعي حساسية هذه المرحلة.
على مدى عقود، كانت الدراما السورية أداة بيد نظام الأسد، يُوظّفها في تشكيل وعي جمعي يخدم سردياته السياسية والاجتماعية. لم تكن الأعمال الفنية مجرد انعكاس للواقع، بل وسيلة للتأثير على المشاهد وتوجيهه. ففي عام 2017، منع نظام الأسد عرض مسلسل "ترجمان الأشواق"، قبل أن يسمح بعرضه بالتزامن مع ذروة تنفيذ حملة التهجير القسري الممنهجة في ريف دمشق عام 2019. وللمفارقة، كان غسان مسعود يؤدي في المسلسل دور الدكتور زهير، الماركسي الذي تحوّل إلى التصوف، وعرّاب المصالحة بين فصائل المعارضة ونظام الأسد.
أجمعت الآراء المنتقدة لاختيار غسان مسعود على أن من غير المقبول أن يؤدي ممثل دعم نظام الأسد خلال فترة قمع السوريين وزج الآلاف منهم في السجون، دور معتقل سياسي في عملٍ درامي بعد سقوط النظام. لكن الأهم من ذلك، أن هذا المسلسل قد يفاقم الانقسام الاجتماعي في مرحلة حساسة تمر بها البلاد. لا يزال سقوط نظام الأسد حديثًا، ولم نصل إلى نصف العام بعد، ولا يزال السلاح العشوائي منتشرًا في مختلف المناطق، فيما يحاول السوريون التعامل مع واقع أمني هش، في ظل غياب آليات العدالة الانتقالية. وفي مثل هذا المناخ الضبابي، قد تؤدي تداعيات مثل هذه الأعمال إلى تعقيد مسار التعافي الوطني.
أثارت فعالية نُظمت في #سجن_صيدنايا موجةً من الانتقادات وردود الفعل التي اتهمت منظمي الفعالية بمحاولة طمس أدلة الجرائم التي ارتكبها النظام السوري السابق في السجون والمعتقلات.
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 15, 2025
🟢 التفاصيل في التقرير: https://t.co/uyNf2Dxspi pic.twitter.com/yaBTP0LveW
توجد شريحة واسعة من الجمهور تتعامل مع الدراما وكأنها سجل وثائقي أو انعكاس للواقع الحقيقي، فالأحداث التي تُعرض على الشاشة تصبح في أذهان البعض بديلاً عن الحقائق الواقعية. هذا التأثير يُلقي مسؤولية أخلاقية كبيرة على صناع الدراما، إذ حين يتم تمثيل مشاهد التعذيب والانتهاكات دون معايير واضحة، قد يتحول الأمر إلى ترفيه مأساوي بدلًا من أن يكون وسيلة لزيادة الوعي وتوثيق الجرائم. والأسوأ من ذلك، أن إعادة تصوير الفظائع بشكل درامي قد يؤدي إلى تطبيعها، مما يخلق نوعًا من الاعتياد عليها بدلًا من تعزيز الشعور بضرورة تحقيق العدالة.
في الوقت الذي تحاول فيه البلاد تجاوز آثار الحرب وإعادة بناء نسيجها الاجتماعي، يجد المنتجون الدراميون أنفسهم أمام سوق جديدة تركز على الأعمال التي تتناول الانتهاكات. فبعد أن كانت هذه المواضيع محظورة أو مسكوتًا عنها لسنوات، أصبحت اليوم محور اهتمام درامي، وهي في بدايات تحولها إلى سلعة تُستثمر لتحقيق مكاسب تجارية. لا شك أن تسليط الضوء على هذه القضايا ضرورة ملحة، لكنها تصبح إشكالية حين يتم توظيفها لأغراض ربحية دون مراعاة أبعادها الحقوقية والإنسانية.
ومع هذه التحولات، وبينما تسعى سوريا إلى إعادة ترتيب أولوياتها، لا تزال العدالة الانتقالية غائبة تمامًا، ويبقى مصير آلاف المفقودين مجهولًا، مما يجعل إنتاج مسلسل مثل "قيصر" أكثر من مجرد عمل درامي، بل تحديًا أخلاقيًا ومجتمعيًا حقيقيًا. ومن الضروري رفض إعادة تمثيل معاناة المعتقلين أو الاقتباس منها لتكون مجرد مادة درامية تخضع لمتطلبات السوق، دون أي مسؤولية أو مراعاة لحقوق الضحايا وأسرهم. وهذا يطرح مخاوف وتساؤلات جدية حول تحول هذه الأعمال إلى مجرد وسيلة للاستثمار والشهرة وتصدر المشهد الدرامي.