الإعلام الأكاديمي في سوريا.. ساحة صراع بين القمع والتغيير
9 فبراير 2025
يتشابك مشهد التعليم الإعلامي في سوريا مع القمع السياسي والسيطرة الاجتماعية، ضمن سياق أوسع من القمع الممنهج للحريات الذي يميز المناخ السياسي والاجتماعي في البلاد.
وفي هذا السياق، غالبًا ما يجد أساتذة كليات الإعلام في سوريا أنفسهم عالقين في توازن هش بين أدوارهم كمعلمين والقيود الصارمة التي تفرضها الدولة.
يستكشف هذا المقال تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا، ويفحص كيف تعكس أفعالهم قمع الحريات الإعلامية داخل الإطار التقييدي للنظام، أو تقاومه أو تدعمه عن غير قصد. من خلال تحليل الأدوار المزدوجة لهؤلاء المعلمين باعتبارهم مؤثرين ومنفذين محتملين لأيديولوجيات الدولة، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل التعقيدات المحيطة بالحريات الإعلامية في بيئة قمعية.
لم تكن مناهج وآليات التدريب في كلية الإعلام كافية لمواكبة المتغيرات المحلية. فعلى الرغم من إطلاق قسم "الإعلام الإلكتروني"، كانت هناك دعوات غير مباشرة لتقييد الحرية وتوجيه الولاء.
لم تتمكن الكلية الجديدة من التخلص من عبء الالتزام بخطاب النظام، مما أدى إلى عدم التركيز على الجوانب العلمية لتفادي التداخل بين الإعلام والنظام. على الجانب الآخر، انخرط آلاف الشبان والشابات السوريين في العمل الإعلامي استجابة لاحتياجات الثورة. اعتمدوا على خبرات بسيطة تفتقر إلى الأسس العلمية أو المهنية، ومع مرور الوقت، أصبحوا صحفيين ينتمون إلى مدارس العمل الميداني أو ورشات التدريب التي قدمتها منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية لتلبية طاقة الشباب الثائر.
نتيجة لذلك، نشأت في سوريا مدرستان إعلاميتان غير متكاملتين. الأولى تركزت على الجانب النظري والتجييش السياسي في دمشق، بينما الثانية اعتمدت على الخبرة الذاتية والانخراط في الجوانب العملية المجردة في مناطق المعارضة. حاولت المدرستان معالجة الفجوات الموجودة من خلال دورات التأهيل الإعلامي في مناطق سيطرة النظام، أو عبر إنشاء معاهد إعلامية في مناطق نفوذ فصائل المعارضة.
نشأت في سوريا مدرستان إعلاميتان غير متكاملتين. الأولى تركزت على الجانب النظري والتجييش السياسي في دمشق، بينما الثانية اعتمدت على الخبرة الذاتية والانخراط في الجوانب العملية المجردة في مناطق المعارضة
ومع ذلك، لم يطرأ تغيير ملحوظ على واقع التعليم الإعلامي خلال السنوات السبع الماضية. فما زالت التحديات مستمرة في توفير بيئة تعليمية توازن بين الحرية الأكاديمية والتأهيل المهني المتكامل.
تجاوزات الأساتذة في كلية الاعلام مشهد معقد
تتجلى تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا في عدة أشكال: أساليب التدريس، ومحتوى مناهجهم، والأعمال الفردية المعارضة التي قد ينخرط فيها بعض أعضاء هيئة التدريس.
على سبيل المثال، يتحدى بعض الأساتذة الخطاب الرسمي من خلال تشجيع التفكير النقدي واستكشاف السرديات البديلة، حتى أنه يمكن أن تعمل هذه الثورة الفكرية على إلهام الطلاب للتساؤل حول الوضع الراهن، والنظر في وجهات نظر أوسع حول قضايا مثل حرية التعبير وحقوق الإنسان. لكن مثل هذه الإجراءات محفوفة بالمخاطر، خاصة في بيئة تحافظ الدولة فيها على مراقبة يقظة للأنشطة الأكاديمية.
كُثر الأساتذة الذين انتهجوا هذا النهج الأكاديمي المحفوف بالمخاطر، ولعل أهم شاهد تجلى في محاضرات الدكاترة عطالله الرمحين وكمال الحاج ويحيى العريضي، فقد كانوا يقومون بتخصيص جزء من المنهج لمناقشة القضايا الجدلية والمثيرة للجدل مثل حقوق الإنسان، الحرية الشخصية، والعدالة الاجتماعية.
واذا ما ذكرنا، لا بد أن نذكر الدكتورة سميرة شيخاني في مادة مصادر المعلومات والتوثيق الإعلامي وإعطائها مساحة للطالب في التحليل والنقد للقنوات والبرامج، بعيدًا عن التحيزات المحتملة أو السرديات المختلفة.
وعلى الجانب الآخر، هناك حالات حيث يصبح الأساتذة مركبات غير متعمدة لأجندة النظام. وتحت شبح الرقابة، قد يقوم العديد من أعضاء هيئة التدريس بتكييف تعاليمهم لتتماشى بشكل وثيق مع عقائد الدولة، إما خوفًا من القمع أو اعتقادًا مضللًا بضرورة الروايات التي ترعاها الدولة. وغالبًا ما يؤدي هذا التكيف إلى إضعاف النزاهة الأكاديمية وخنق الخطاب الحيوي الذي يدعم التعليم الإعلامي الجيد. وقد يقوم الأساتذة عن غير قصد بقمع الأفكار الجديدة والمنهجيات النقدية، وبالتالي المساهمة في ثقافة الترهيب التي تُسكت الأصوات المعارضة.
إن التأثيرات الأوسع لهذه الثنائية في التجاوزات تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الأفعال الفردية أو المناهج الدراسية. إن الجهود المستمرة التي تبذلها الدولة لقمع حريات وسائل الإعلام تنعكس في القيود المفروضة على المؤسسات التعليمية. يعمل أساتذة الإعلام السوريون في مناخ من الخوف وعدم اليقين، حيث يمكن أن يؤدي الانحراف عن السرديات المقبولة إلى عواقب وخيمة، بما في ذلك فقدان الوظيفة، أو التدخل القانوني، أو حتى السجن. تخلق ثقافة الخوف هذه في الأساس تأثيرًا مخيفًا يحد من الحرية الأكاديمية، ويمنع التبادلات الفكرية القوية التي تعد ضرورية لنظام بيئي إعلامي مزدهر.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب ظاهرة الرقابة الذاتية دورًا حاسمًا في هذه الديناميكية. في بيئة تتميز بالمراقبة الشاملة والقمع التاريخي، يختار العديد من الأساتذة تخفيف حدة مناقشاتهم بشكل استباقي أو تعديل مخرجاتهم الأكاديمية لتتماشى مع توقعات الدولة. تعمل هذه الرقابة الذاتية على إدامة دورة من الامتثال التي تخنق في نهاية المطاف الإبداع وتطوير الكفاءات الإعلامية النقدية بين الطلاب.
على الرغم من هذه التحديات الهائلة، هناك حالات من المقاومة توضح مرونة وفعالية أساتذة الجامعات الإعلامية السورية. وقد سعى بعض المعلمين إلى منصات بديلة للتعبير، باستخدام شبكات سرية وتجمعات غير رسمية لتعزيز الحوار النقدي حول حريات الإعلام والمساءلة. وقد تحدث هذه الأعمال الثورية خارج المؤسسات التعليمية الرسمية، في أماكن آمنة حيث يمكن مناقشة الأفكار دون التهديد المباشر بتدخل الدولة.
وعلاوة على ذلك، فتح ظهور التقنيات الرقمية آفاقًا جديدة للمشاركة الإعلامية، مما يسمح للأساتذة بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت كأدوات للمناصرة ونشر المعرفة. لقد برز الإنترنت كسلاح ذو حدين؛ ففي حين يوفر مساحة للمعارضة، فإنه يعرض الأفراد أيضًا لخطر أكبر من التعرض لمراقبة الدولة. وبالتالي، يجب أن يتم التعامل مع تصرفات المعلمين الإعلاميين مع مراعاة دقيقة لكل من الفرص والتهديدات التي تفرضها مثل هذه التقنيات.
نهلة عيسى أحد أهم أسباب الاعتقالات التعسفية في كلية الإعلام
يعزو العديد من الطلاب هذا الأمر إلى التشديد الأمني المفروض على الكلية. يشير الكثيرون إلى دور النائب العلمي لعمادة الكلية، نهلة عيسى، في تسليم عشرات الطلاب لأفرع الأمن، مما ساهم بشكل كبير في تفاقم هذه الأزمة.
منذ افتتاح الكلية وحتى اليوم، لعبت عيسى دورًا محوريًا كضابط أمن متحكم في الكلية. احتفظت بمنصب إداري ساعدها على ممارسة سلطتها دون الظهور في الواجهة، حيث شغلت منصب نائب العمداء المتعاقبين، مما أتاح لها القدرة على التأثير دون التصادم المباشر.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انخرط قسم من الطلاب في التعاون مع عيسى، حيث قاموا بكتابة التقارير وتسليم زملائهم لأفرع الأمن. هذا التعاون زاد من حالة التوتر والانقسام داخل الكلية، وأدى إلى تفاقم المشاكل الطلابية بشكل أكبر.
وفي تاريخ الرابع من شباط/فبراير 2025 بعد سقوط نظام الأسد، قام عدد من طلاب كلية الإعلام بوقفة داخل الكلية مطالبين بإعفاء عيسى من مهامها وإحالتها إلى القضاء بتهم عديدة، أبرزها التسبب باعتقال عدد من الطلاب وفقدانهم في أفرع النظام البائد.
كما تقدم عماد خورشيد، والذي يشغل منصب "segment producer" في تلفزيون قطر، بالشكوى إلى رئيس لجنة تسيير الأعمال، الدكتور زياد عبود، بحق عيسى، مفادها الأعمال التشبيحية والإجرامية التي قامت بها الأخيرة ضد طلاب كلية الإعلام.
وقد تعاونت عيسى مع محمد العمر في عام 2018 في كتابة تقرير موجه إلى إدارة المخابرات العامة "الفرع 251" بحق زميلهم الدكتور أحمد شعراوي، وتوجيه تهمة عدم التزامه بالدوام الرسمي، وذلك لانشغاله بإعطاء دورة صحافة في اتحاد الصحفيين السوريين في محافظة السويداء، رغم أنه كان باستطاعتهم أن يطالبوا بعقوبة إدارية ومسلكية بحقه.

يذكر أن الدكتور محمد العمر كان قد صدر مرسوم رئاسي بإعفائه من مهامه وإيقافه عن التدريس في كليات جامعة دمشق في عام 2008، لكنه عاد إلى لتدريس في كلية الإعلام وتسلم منصب عميد الكلية عند بدء الثورة في عام 2011.
الدكتور محمد الرفاعي ومبادلة الترفّع في مواده على أفعال لا أخلاقية
هزّت فضيحة أخلاقية كلية الإعلام في جامعة دمشق إثر تورط الدكتور، محمد الرفاعي، في ممارسات غير أخلاقية. أحالت رئاسة الجامعة الرفاعي إلى مجلس التأديب وأوقفته عن التعليم، وذلك لأسباب تتعلق بالآداب العامة وممارسات تسيء بسمعة الجامعة وكادرها التدريسي.
أثارت القضية ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت مقاطع فيديو تدين الرفاعي، ما حول القضية إلى قضية رأي عام. قامت رئاسة الجامعة بإحالته للتحقيق، وتولى مهمة التحقيق لجنة مكلفة من كلية الحقوق.
أثناء التحقيق، اعترف الدكتور الرفاعي بالمخالفات التي ارتكبها بحق إحدى الطالبات، حيث طلب منها مبادلة نجاحها في المادة التي يُدرسها مقابل تحرشه بها. كانت الطالبة قد نشرت محادثات بينها وبين الرفاعي تؤكد تحرشه بها، خاصة بعد فشلها في ترفيع المادة في الدورات السابقة ورفضها الرضوخ لممارساته اللا أخلاقية. انتشار هذه المحادثات على مواقع التواصل الاجتماعي أدى إلى إحالته إلى التحقيق وإيقافه عن التعليم.
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، حيث تكررت الممارسات اللا أخلاقية في جامعات النظام منذ بداية العام الماضي وحتى اليوم. وصلت تلك الممارسات إلى إحالة 17 عضوًا من الهيئة التعليمية إلى مجلس التأديب، كما تم تحويل إداريين إلى محكمة مسلكية خلال الأشهر الماضية.
تجاوزات أساتذة كليات الإعلام في سوريا تجسد التفاعل المعقد بين الأدوار التعليمية وقمع الحريات الإعلامية داخل نظام قمعي. ففي حين يتنقل بعض المعلمين عبر القيود المفروضة عليهم لتعزيز الاستقصاء النقدي ومقاومة السرديات السائدة، قد يعزز آخرون عن غير قصد أيديولوجيات الدولة من خلال الامتثال والرقابة الذاتية. وتمتد آثار هذه التجاوزات إلى ما هو أبعد من الفصول الدراسية، حيث تشكل مشهد التعليم الإعلامي وحرية التعبير في سوريا.
وفي نهاية المطاف، فإن الفهم الدقيق لهذه الديناميكيات أمر ضروري لفهم التحديات الأوسع التي يواجهها المهنيون الإعلاميون في مجتمع حيث تظل الحرية والتعبير والنزاهة تحت الحصار. ومن خلال الاعتراف بهذه التعقيدات يمكننا أن نبدأ في تصور مسارات نحو بيئة إعلامية أكثر تحررًا، حيث يمكن للقوة التحويلية للتعليم أن تزدهر دون قيود من قوى القمع.