1. قول

الحق بالكلام.. الحق بالتعبير

29 ديسمبر 2024
سوريون يحتلفون بسقوط نظام الأسد وسط العاصمة دمشق في 20 ديسمبر 2024 (رويترز)
مصلح مصلحمصلح مصلح

كان على نضال السوريين للخلاص من حكم الطغيان الأسدي، القائم على السلب، سلب الناس لحقهم بالكلام أن ينتظر ثلاثة عشرة عامًا ونيف ليصبح واقعة صلبة لا تخطئها العين. لذا لا عجب أن يتصدر شعار الحرية المشهد بتنويعاته المختلفة "حرية...حرية"، و"حرية للأبد.. غصبًا عنك يا أسد"، و"سوريا بدها حرية".. لارتباطه الوثيق بالحق والحريات العامة على وجه العموم، وبحرية القول على وجهه الخصوص، ذلك أن انتزاع الحق بالقول هو المآل الأخير للخلاص من الاستبداد الأسدي، الذي استمات في مصادرة حرية تعبير كل سوري، واحتكارها لنفسه على نحو مطلق.

الثابت في الاستبداد الأسدي حرصه الإمساك بحرية القول، جعلها حكرًا شخصيًا على ذاته الرئاسية، ومن ثم حرصه الكلبي على رفع القول، قوله الخاص، مجموعة خطاباته، إلى مصاف النص التأسيسي الذي تقع على عاتقه مهمة وضع مجموعة الضوابط التي يمكن أن تحكم جملة نصوصه الحافة أو الثانوية، على نحو يجعل من كل قول أو خطاب تالٍ مجرد صدى أو محاكاة هزلية له. الأمر الذي نعثر على مسوخاته في خطابات عضو "مجلس الدمى" خالد عبود، الذي تفتقت قريحته الفذة عن الإتيان بنظرية "المربعات"، لتكون محاكاة هزلية لنظرية "المؤامرة الكونية"، التي وضع أسسها التلفيقية الأسد نفسه، في معرض تسفيهه لآراء السورين المطالبين بالحق بالكلام، كما الحق بالمشاركة.

إذا كانت هناك لحظات مشرقة في مسيرة الثورة السورية، فهي بلا شك تلك التي خرج فيها الناس للمطالبة بحقهم في التعبير، باعتباره الخطوة الأولى نحو حقهم في الفعل؛ أي إدارة شؤون حياتهم العامة بطريقة عقلانية وإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، ظل شوقهم الجارف للحرية حاضرًا وقويًا، رغم كل محاولات آلة القمع والقتل التي استخدمها النظام السوري. ورغم شدتها، لم تتمكن هذه المحاولات من كسر إرادتهم. أضف إلى ذلك كله شوقهم العارم للحرية الذي لم تفت في عضده كل محاولات آلة الموت الأسدية، التي أطيح بها بزمن قياسي قدره، أحد عشر يومًا كاملًا، جعل من معجزة السقوط نصرًا مؤزرًا، ومن النصر مطرحًا قابل للقسمة على خصمين لدودين؛ الموالاة والمعارضة.

إذا كانت هناك لحظات مشرقة في مسيرة الثورة السورية، فهي بلا شك تلك التي خرج فيها الناس للمطالبة بحقهم في التعبير، باعتباره الخطوة الأولى نحو حقهم في الفعل

الأمر الذي سيمكن الموالاة المنتصرة، ممثلة في ديانا جبور، مديرة التلفزيون السوري سابقًا، من إقامة الحد على أقوال الناطق الرسمي باسم "هيئة الإدارة السياسية"، عبيدة أرناؤوط، الذي خانته حصافته الدبلوماسية، للانزلاق في التنظير لقصور المرأة "النفسي والبيولوجي" الذي يمنعها من تولي مهام ذكورية خالصة، على شاكلة وظائف في وزارة الدفاع أو ما في حكمها.

كما سيعبد لها تحويل الاحتجاج اللفظي إلى احتجاجي سياسي، عبر دعوة أنصار المرأة للنزول إلى الشارع "ساحة الحجاز"، لا للتنديد بكلام السيد أرناؤوط الخاص بقصور المرأة، بل بجملة الرؤية الأيدولوجيا السلفية التي تحتجب خلفه: "الحقوق لا تعطى، الحقوق تأخذ. فلنرفع أصواتنا في الساحات. نحن سوريات ندعوكم/ن نساء ورجالًا لوقفة اعتصام في ساحة الحجاز، يوم الأحد، الساعة الثانية ظهرًا. لنرفع أصواتنا عاليًا، لضمان حق النساء في سوريا الجديدة. ملاحظة: بات الفرد يحدث فرقًا، فلا تتوانوا".

 في واحدة من مفارقات التاريخ الكبرى أثبت الممسكون بسلطة الأمر الواقع "هيئة تحرير الشام" قدرتهم السياسية على تعميم النصر، تمكين بعض موالي النظام البائد من الخروج إلى ساحة الأمويين، ومن ثم حماية حقهم بالتجمهر، وصولًا إلى طرح تصوراتهم الأيدولوجيا الخاصة بالـ"دولة علمانية" (فصل الدين عن الدولة، أو قل حيادية الدولة تجاه الدين)، دون أي قمع أو ترهيب أو اعتقال، في الوقت الذي فشل فيه بعض المحسوبين على أنصار الثورة ومثقفيها، كالكاتب والإعلامي محمد منصور، في تلفزيون "أورينت" سابقًا ورئيس تحرير مجلة "العربي القديم" حاليًا، في تقبل ذلك أو هضمه. فقد هالت الرجل قدرة زملائه الزئبقيين، من سرعة وضع أيديهم على النصر المظفر، ولعبهم أدواره الدرامية (الانتصار في زمن الأسدية، الانتصار في زمن الثورة)، فلم يجد من وسيلة لكبح جماحهم، سوى مسارعته لسلب حقهم المكتسب بالقول، متعللًا بماضيهم التشبيحي الذي لا يجيز لهم ذلك: "المتلونة الساقطة ديانا جبور، التي بدأت مسيرتها المهنية في الإعلام والثقافة، من خلال المخابرات العسكرية برعاية آصف شوكت".

بعيدا عن برهنة الإعلامي منصور السلبي على شخصية ديانا جبور ومن ثم على شخصية الفنانة لمى بدور، التي لم ير فيها سوى "كنة للمفسد أيمن زيدان"، فإن كلامه السابق يفتح القول باكرًا على مسألة العدالة الانتقالية، وعلى خطوطها العريضة، فيما إذا كانت ستقتصر على محاسبة المجرمين، الذين شاركوا في عملية الإبادة الجماعية عبر "مسالخ الأسد"، أم ستطال بدورها أدواتها الناعمة، من أبواق الدعاية الأسدية، ومن في حكمهم من مخبري الحارات الشعبية. أم ستمتد بدورها إلى حرية قول المكوعين، الذين صاروا بين ليلة وضحاها من أنصار الدولة المدنية وأركانها.

ومع أننا لا نجاري منصور، ولا من قال بقوله، ونذهب بعيدًا باحترام حق خصومنا المكوعين، درجة رفعه إلى مصاف الحق المقدس، فإنه لا تصل بنا السذاجة أو التغاضي عن نقد قول هؤلاء وخطاباتهم، لناحية التعامل معها كأي خطاب عمومي، يجوز عليه ما يجوز من حالات التلطي، أو التخفي أو التقنع، التي تفصح عن معنى، وتحتجب عن قول آخر.

مع ذلك فإن محاولة بعض أنصار المعارضة الذين صاروا أنصارًا للسلطة الجديدة الإصرار على حرمان أنصار الموالاة من النصر، هي محاولة مستهجنة لإقصاء أي سوري من حقه في القول

الأمر الذي يفتح النقد على تلمس مدى القصور في خطاب الموالاة، لناحية تعاليه على لحظة نصر السوريين، والتعامل معه كما لو كان حقًا بديهيًا قبل لحظة كنس الاستبداد تلك، عبر التجاهل المتعمد لرفع علم الاستقلال الأخضر، الذي سقط تحت رايته الخفاقة الآلاف المؤلفة من السوريين. أضف إلى ذلك تجاهلهم لعبارات الإشادة بتضحياتهم الناس العظيمة التي جعلت من الحلم بالاجتماع الحر في الساحات، وحرية القول أمرًا مستحقًا، لنكتشف أن الدافع الحقيقي وراء الجحود، غطرسة المهزوم نفسها، الذي يشق عليه أن يرى نفسه منتصرًا، بفعل آلاف الحيوات الآدمية الطيبة، التي لا يستطيع أن يرى فيها روحًا عظيمة تستحق الاعتراف والتقدير.

بالعودة إلى حرية القول، كما حرية نزول جماعات المجتمع المدني على مختلف مشاربهم، الضاربين منهم بالانتماء، أو الطارئين عليه، ومن ثم الاستماع إلى وجهات نظرهم في طبيعة الدولة السورية القادمة، يلمس المرء موجه الاستعلاء النخبوية ذاتها: "هذا قولنا الفصل في طبيعة الدولة، فلا تسقطوه من جرد حساباتكم"، كل ذلك دون مراعاة لمشاعر آلاف المكلومين من الصورة النمطية لـ"دولة الأسد العلمانية"، التي طالما انتهكت أقدس أقداس عقائدهم، بما فيها العلاقة بين العبد وخالقه. الأمر الذي أثار بدوره ردة فعل شعبوية "المحرر هو من يقرر"، تستقوي بفكرة التغلب التاريخية القائمة على حق المنتصر بفرض إرادته على المغلوبين. وهو ما يسهم في تقويض فكرة العلمنة القائمة على العدل، ويشوه صورتها، عند الغالبية العظمى من السوريين، الذين لم يعرفوا منها سوى الوصفة الوحشية، لفصل المرء عن ضميره، كنه وجوده البشري.

مع ذلك فإن محاولة بعض أنصار المعارضة الذين صاروا أنصارًا للسلطة الجديدة الإصرار على حرمان أنصار الموالاة من النصر، هي محاولة مستهجنة لإقصاء أي سوري من حقه في القول، كما هي في الوقت نفسه نوع من التأسيس الروحي لاستبداد آخر، سيظل يجد ضالته في الموقف السلبي من الآخر، سلبه لحقه بحرية القول، حقه بالتعبير عنه.

كلمات مفتاحية

بين مرايا الدم وأقلام الحياد.. خيانة المثقف العربي لقضاياه

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، بل غدت اختبارًا أخلاقيًا للإنسانية، ومرآة تعكس نفاق المجتمع الدولي وعجزه عن وقف المجازر المرتكبة على مرأى ومسمع من العالم.

رغم الخسائر والضغوط.. لماذا تتجنب مصر استهداف اليمن عسكريًا؟

تمثل العلاقات المصرية اليمنية حالة استثنائية شديدة التمايز والخصوصية، إذ يربط البلدين قائمة مطولة من القواسم المشتركة، المتنوعة بين الثقافي والسياسي والجغرافي

بعد نصف قرن... هل غادر لبنان "بوسطة الموت"؟

عشية الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان متحف "نابو"، في شمال لبنان، يجهّز مساحة في حديقته تتعدّى الزمان والمكان، خصّصها لحفظ بوسطة عين الرمانة، أو "بوسطة الموت"، كي "تكون الحرب عبرة وتحفيزًا لكتابة تاريخ حرب لبنان"

TEST TEST TEST

test test final

image

test 3

سياق متصل

وقف إطلاق النار في لبنان يهتزّ... الجيش اللبناني يلتزم بالـ"ميكانيزم" وقلق من تسخين جديد للجبهة