السفسطائيون الجدد
7 أكتوبر 2016
السياسيون الذين قاطعت التلفاز بسببهم، تجدهم الآن في الشارع العام بلهاثهم وبسحنات أُناس ورعين، بعد أن تخلوا عن بذلاتهم السوداء المكوية التي كانت تمنحهم بعض النبل الإنساني على مضد. لا يكفون عن الاستجداء والعويل خائفين على مستقبل أبنائهم ومشاريع زوجاتهم الاستكشافية في البرازيل وجزر المالديف. لا يستطيعون حتى أن يتخيلوا حياتهم بدون سائقي الخدمة وحلاقين خصوصيين وأطباء تجميل لرتق عيوب الشيخوخة. لا يدركون أن حياتنا ستكون أجمل بدونهم. ستكون حياة أشبه بحياة البحار والخلجان: حياة حرة وطبيعية. حياة بدون كوابيس وبدون برامج حوارية ساذجة في التلفيزيون.
لا يدرك السياسيون الذين قاطعت التلفاز بسببهم أن حياتنا ستكون أجمل بدونهم
لذلك فإنني أتمنى لهم الرسوب جميعًا. أتمنى أن أسمع في الأخبار بأن الجميع قد رسب أو أنه قد تم حجب جميع المناصب - مثلما يحدث في الجوائز الأدبية - لعدم توافر شروط المروءة والكفاءة والنزاهة وانعدام الحس الوطني وتفشي الجشع.
لذلك سيخبرنا أناس مهذبون يلبسون بذلات من نوع "لاكوست" مضمخة بعطور من الشانزيليزيه، بضرورة التعايش بدون برلمان وبدون حكومة لمدة خمس سنوات. سيتلون خطابًا جادًا ورصينًا لا يخلو من كياسة ولكنه لا يخلو أيضًا - في بعض الأحيان فقط - من أخطاء الصرف والتحويل ومن علامات التحرج الشديد ليطمئنوننا بأنهم سيجدون حلولًا موازية لهاته المشكلة الطارئة داعيننا إلى مزيد من الحذر واليقظة، وهم في سريرتهم يدعوننا إلى مزيد من الغفلة وتبلد الذهن.
اقرأ/ أيضًا: أوصيكم بالناس شرًا
كثيرًا ما يدعونا أهل المناصب إلى مزيد من الحذر واليقظة، وهم في سريرتهم يدعوننا إلى مزيد من الغفلة وتبلد الذهن
ستكون خطاباتهم رنانة بحيث أن أوداجهم ستنتفخ أكثر من مرة دلالة أنهم لا يهزأون، وأنهم مصممون على حجب كل المناصب لضرورات ذكرناها وأخرى تقتضيها الضرورة السياسية. سيجعلون الأمر شبيهًا بالسنوات الدراسية البيضاء مثلما كان يحدث في الحروب الحقيقية المختلفة تمامًا عن هاته الحروب المعاصرة التي طالها التزييف شأن كل السلع والملابس التي نجدها في الأسواق.
فهاته الحروب ينفذها محاربون مرتزقة وعشاق الثروة وممثلون ومخرجون سينيمائيون فاشلون وعاطلون عن العمل وأعضاء عصابات متقاعدون لا يجدون ما يملأون به أوقات فراغهم أو ما يقتلون به مللهم، وتجد بينهم أيضا معتقلون سياسيون خونة باعوا رفاقهم في لحظات الشدة لتعويضها بلحظات رخاء في يخوت مستوردة، كما تجد بينهم مغامرون ومستكشفون سابقون وعشاق صور السيلفي.
كل السياسيين الذين تعرفهم غيروا طواقم أسنانهم التي أصبحت تضيق بأفواههم الشبيهة بجحور فئران برية. هم أيضًا لا يختلفون عن الفئران. فهم سريعوا الاختباء نظرًا لجبنهم الشديد الذي يضعهم في خانة كائنات الظل. بعضهم قام بزرع أسنان ناصعة البياض يمكنك اكتشافها بمجرد افترار أفواههم عن ابتسامات سيئة التصنيع.
أتمنى أن أسمع في الأخبار بأن كل سياسي قد رسب أو أنه قد تم حجب جميع المناصب لعدم توافر شروط المروءة والكفاءة
هؤلاء السياسيون أصيبوا بعمى الألوان بحيث لا يرون سوى ألوان حزبهم السياسي. إنهم لا يفكرون، لأنهم يرددون أفكار زعمائهم وأولياء نعمتهم الأولين الذين أخرجوهم من غياهب الفقر وقلة الشأن. لذلك فإنهم مدينون لهم بكل شيء في حياتهم. وهم في الحقيقة ليسوا بالجاحدين ماداموا يعددون تلك النعم بصوت جهور ودون أي إحساس بجسامة الموقف أو بتأنيب الضمير.
اقرأ/ أيضًا: في الحاجة إلى "جريندايزر" فلسطيني!
كلهم كانوا كذلك. انتهازيون، أنانيون ودوغمائيون وبيداغوغيون. كان صبر سقراط سينفذ قبل نفاذ ضغائنهم وحيلهم الرديئة والمكشوفة والتي تسبب الغثيان وعسر الهضم وآلاما في المعدة تستمر لليلتين أو أكثر. سقراط كان سيطلب التعجيل بتطبيق الإعدام في حقه. سيرفض أية تسوية تقضي بمعايشتهم والمشاركة معهم في برامج حوارية تبث حية على التليفزيون.
سيهزمونه بأناقتهم المبالغ فيها وبروائح عطورهم التي اشتروها من الشانزيليزيه خلال زياراتهم الكثيرة إلى باريس. سيتحدثون بدون توقف. أحيانًا سيكون بائسة بدون قعر أو سطح. هي مجرد سحابة تعبر على عجل السماء في مساء أربعاء من زمن طفولتك.
سيقهقهون بصوت عالٍ ممررين أياديهم على أفواههم كأنهم انتهوا من وجبة دسمة في احتفال قروي. لن يتركوا لسقراط أي فرصة لمأزقتهم بأسئلته المفخخة، لأنهم سيتعللون بضيق الوقت ثم أن لا شيء سيضيرهم إن تم اكتشاف عدم تناسق أقوالهم. هذا فقط لأن البرنامج الحواري سينتهي بسرعة وستنطفئ أضواء الاستوديو ويخرج سقراط بدون استنتاج يذكر. فيكتشف أن هؤلاء سفسطائيون حقًا ولكن شكيمتهم مستعصية وهزيمتهم لا يمكن أن تحدث بأي حال ولو في الخيال.
يتجه السياسيون مساءً إلى صالونات منازلهم لمعاينة صورهم التي التقطها لهم على عجل مصورو القناة الوطنية استعدادًا لسهرة إخبارية تتحول الى مأتم حينما يتم الانتقال الى الأخبار الدولية. يتم شد انتباه المواطنين بمقبلات إخبارية شبيهة بسلاطة من فواكه البحر ثم تعقبها أخبار شبيهة بأمطار تصاعدية تختم يوما صيفيًا.
يرتب السياسيون كلماتهم بشكل يجعلك تعتقد أن لديهم مشطًا في حناجرهم يساعدهم على تصفيف حججهم وأكاذيبهم
يتسمرون فوق أرائكهم بعد أن يستدعوا زوجاتهم وأطفالهم. يلكزونهم الواحد تلو الآخر لتنبيههم حينما تأتي بشائر الصور. إنه فوج من الصور الزاهية تظهرهم ببذلاتهم السوداء وهم يمسدون على صدورهم مستقبلين التحايا بطريقتهم الخاصة. يشيرون إلى بعضهم البعض إشارات تعني أننا استطعنا فعلها والوحيدون الذين استطاعوا ذلك دون مساعدة أحد ثم تبدأ الشماتات.
اقرأ/ أيضًا: حفلة التفاهة
يشمتون في خصومهم وأتباعهم على حد سواء. لقد هزموا الجميع. هزموا خصومهم في معارك مابعد الظهيرة وهزموا أتباعهم من خلال نصب فخاخ لهم في أدغال خطاباتهم التي بلا رأس ولا ذيل. إنها مجرد سيول شتوية لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها. سيول لا توقفها متاريس. تزداد قوة لأن أصحابها لا يقيمون اعتبارا لأي شيء.
يبدأون مرافعاتهم ولا ينتهون منها مثلما كان يفعل السفسطائيون اليونانيون في أثينا. يستطيعون إقناعك بكل فكرة تعن لهم. يرتبون كلماتهم بشكل يجعلك تعتقد أن لديهم مشطًا في حناجرهم يساعدهم على تصفيف حججهم وأكاذيبهم.
تجدهم في حياتهم العادية أشبه ما يكونون بخراف صغيرة مغلوب على أمرها تقاد إلى المسلخة. فجأة يجدون أنفسهم وحيدين أمام زوجات متغطرسات وحالمات بالثروة. زوجات مصابات بسمنة مفرطة وراغبات في تأسيس ثروة تسمح لهن بإجراء عمليات تجميلية في بلاد بعيدة وآمنة. لذلك فهن لايقنعن بشيء ولا يطمئن لما تقوله الأبراج. إنهن مصابات بالوسواس القهري الذي يجعل منهن عرائس دائمة الوجوم والتطير.
أفكر في أن أقبع داخل المنزل لكن أصوات السياسيين تصلني. إنهم يعكرون صفوي أينما حللت وارتحلت
إنهن يلجأن إلى ألسنتهن لتحويلها إلى أسلحة فتاكة تقذف بالسموم والشتائم التي يطلقنها كيفما اتفق دونما خشية أو تهيب. يملأن المنازل بالصراخ ولعن سوء الطالع الذي رهن مستقبلهن بأزواج فاشلين لا مهنة لهم سوى تمثيل أدوار بائسة في مسرحيات نصوصها لا تتغير ولا تحيل على شيء. لذلك فإن حياتهن مليئة بالملل والضجر. حياة مديدة وعكرة طيلة الوقت.
هؤلاء هم السياسيون الذين قاطعت التلفاز بسببهم. لكنني الآن أجدهم في كل مكان كالذباب. أفكر في أن أقبع داخل المنزل لكن أصواتهم تصلني. إنهم يعكرون صفوي أينما حللت وارتحلت. لذلك فإنني أتمنى لهم الرسوب جميعًا بدون استثناء.
اقرأ/ أيضًا:
في قريتي.. حلم يجاور الشمس
سنوات في المعتقل