الكتابة في مزرعة العنف العالمية
26 يمشي 2025خلقَ الكتّابُ عبر التاريخ كائنات جمالية، مُفرطة في الجمال. عملية الخلق حاجة جوهرية عند الكتّاب، وكما يقول بول أوستر، إنها دافع إنساني جوهري. على الكتابة أن تقوم بشيء أكبر مما تقوم به. يتساءل أوستر بحزن عن قدرة الكتابة على توفير طعام لطفل جائع، أو منع رصاصة من الدخول في جسد ضحية، أو درء سقوط قذيفة على مدنيين أبرياء. ورغم حزن أوستر، فإنه لا يرى وجوده إلا في الكتابة، وأنها العمل الوحيد الذي يرغب فيه على الإطلاق.
هناك دوافع أخرى تجعل الكتّاب يدوّنون أفكارهم على الورق. يقول جان بول سارتر إن دافعنا إلى الكتابة هو "الشعور بأننا ضروريون في العلاقة مع العالم". وهذا شيء مركزي، لأن وجود الكاتب هو وجود ضرورة لخلق كائنات إبداعية في هذا العالم. إلا أن هذه الكائنات تستعصي على خالقها، ويضطر إلى أن يسال نفسه: "هل أنا من خلق هذا؟". وفي الجهة المقابلة، فإن القارئ هو الجزء الآخر من الكاتب، إنه فاعلية أخرى تنتظر أن تتم دعوتها، فالكتابة حسب سارتر: "هي توجيه نداء إلى القارئ ليخرج إلى الوجود الموضوعي الذي قمتُ به عن طريق اللغة. وبالتالي، تكون الكتابة دعوة موجهة من الكاتب إلى حرية القارئ، لتكون عونًا للكاتب في إنتاج أعماله". وهكذا، فإن "الكتاب ليس، مثل الأداة، وسيلة لأية غاية مهما كانت؛ بل إنه الغاية التي تقدم نفسها على أنها هي حرية القارئ".
إن الالتزام السارتري هو محور من محاور الكتابة، أو هو ضرورة لا يمكن أن تحدث الكتابة من دونها. يؤكد سارتر بأن "الكتابة هي وسيلة من وسائل إرادة الحرية. بمجرد أن تبدأ بها، فأنت ملتزم... الالتزام بماذا؟ بالدفاع عن الحرية؟". هذه الحرية التي يرى سارتر بأنها صفة ملازمة للكاتب، وهو ملزم بالدفاع عن الآخرين، كل الآخرين، "لأنه في اللحظة التي أشعر فيها أن حريتي ترتبط ارتباطًا لا ينفصم بحرية جميع الناس الآخرين، فلا يمكن أن يُطلب مني أن أستخدمها للموافقة على استعباد جزء من هؤلاء الناس". الكاتب إذًا هو رجل حر، يخاطب رجالًا أحرارًا. "له حرية موضوع واحد فقط، هو الحرية". ولا يجوز للكاتب أن يخرج عن موضوع الحرية، أو يتجاهله، أو أن يقف ضد حرية الآخر، وبالتالي، "فإن أي محاولة يقوم بها الكاتب لاستعباد قرائه، تهدده في فنه".
إن الكتابة، تنمو من هذا الغضب والترقب، والخوف أيضًا. إنها تنهل من عالم سحري بالمطلق، عالم لم يكن موجودًا قبل أن يتم تدوينه على الورق. إنها تحافظ على هذا العالم الذي يدمر نفسه بسرعة هائلة
إننا نأمل من الكتابة أن تقدم لنا اكتشافات جديدة، هذا حقيقي، وتجعلنا أقل عجزًا أمام الواقع، وتخفف من مللنا من العالم البليد. ويرى غريغ جيرك في الكتابة "أكثر الألعاب احترامًا والتهابًا، على الرغم من أنها بالتأكيد أقل تعويضًا، فهي تقيم محادثة بيننا وبين الآخرين من دون الحاجة إلى وجود شخص آخر وسيط. المجتمع غير متكافئ، عدد قليل لديهم الكثير، والكثير لديهم القليل جدًا. كيف يمكننا منع هذا؟ يعلم الجميع أن الحياة غير عادلة، لكن جلب القليل من الجمال إلى العالم، هو خطوة تقدمية صغيرة".
الكتابة عمل مقدس، رغم ما يعترض الكتّاب في حياتهم من إهمال وتشويه، إلى درجة يضطر فيها بعضهم إلى العزلة واعتكاف الحياة العامة، أو إلى الجنون، أو إلى أسوأ من ذلك، أي الانتحار.
هنالك الكثير من الأفكار تجول عبر الكون باستمرار، وعندما يكون الكاتب منفتحًا ومستعدًا، "سيتلقى فكرة تقلبه رأسًا على عقب. نعم، هذا هو ما يحدث. مثل هذا العنف قد يجعلك تتساءل عن سبب كتابة الكتّاب، وربما يخيفك الأمر. كن مطمئنًا، فعندما تندلع فكرة ما، يشعر الكتّاب بشحنة كهربائية، بالغضب والترقب" كما تقول كيت جونستون. إن الكتابة، تنمو من هذا الغضب والترقب، والخوف أيضًا. إنها تنهل من عالم سحري بالمطلق، عالم لم يكن موجودًا قبل أن يتم تدوينه على الورق. إنها تحافظ على هذا العالم الذي يدمر نفسه بسرعة هائلة.
إننا بالتأكيد نحب الكتابة، رغم ما تخلّفه من ألم لنا، ورغم ما تظهر لنا بأن العالم شبه عصي على التغير والتحول نحو الأفضل. ولكننا نكتب لأننا نأمل، والأمل هو الشيء الوحيد الذي يجعل الكتّاب يقومون بجريمتهم هذه. إنها جريمة في عالم يمقت الفكر والخيال، ويمنح جوائز للتفاهة.
إذًا، علينا أن نكتب، ونكتب، ونكتب. وإذا حوصرنا بالتفاهات وبالعذاب والموت والألم، فإننا سنصر على الكتابة. إنها جوهر وجودنا، وهي أداة التغيير الذي ننشده. يقول المهاتما غاندي: "كن أنت التغيير الذي ترغب برؤيته في العالم".
ورغم كل آمال الكتّاب، فإنهم يصطدمون بالواقع العنيف، وبالقوة الهائلة للبارونات الذين يديرون الحروب في العالم؛ إذ لم تستطع الكتابة أن تكون قوة قادرة على مواجهة الموت ـــ على الأقل في حالة همنغواي وآن سيكستون وفرجينيا وولف وسيلفيا بلاث وديفيد فوستر والاس ـــ وكان الموت، أو لنقل الرعب، هو المنتصر. سينهي كل من هؤلاء الكتّاب الكبار حيواتهم بسهولة وعن سابق إصرار، ومن دون خوف. الموت ليس مخيفًا كما يبدو بالنسبة إليهم، إنما الحياة هي الغول الذي هربوا من أنيابه. كانت الحياة تهددهم بالافتراس في كل لحظة، فاندفعوا وألقوا بأنفسهم في الجهة الأخرى من العالم، حيث لا أنياب ولا رعب يهددهم في كل ثانية.
بندقية همنغواي، وفرن بلاث، ونهر وولف، كانوا أكثر دفئًا ورحمة من كل الوحوش التي تخلقها أفكار الإنسان عن العدالة والحريات وحقوق الإنسان. ومن بقي من أحفادهم يكتبون، ما زالوا يأملون أن تتلقى صدورهم هذه الرصاصات التي تنطلق نحو أبناء جنسهم، أو أن يحموا بكلماتهم طفلًا صغيرًا قد تفتتُ قذيفة جسده إلى أشلاء. إنهم يأملون، ولهم الحق في ذلك، أن تفعل صرخاتهم شيئًا لوقف العنف، حتى لو كانوا يشاهدون العالم من حولهم يتشظى ويستحيل خرابًا ويمزق جزءًا كبيرًا من أرواحهم.