بايدن وترامب يقوّضان العدالة والديمقراطية الأميركية بإساءة استخدام السلطة
22 يناير 2025
وَضَع كلٌّ من الرئيس الأميركي المنصرف جو بايدن والرئيس الحالي دونالد ترامب في يومٍ واحد سوابقَ خطيرةً في تاريخ الديمقراطية الأميركية، وذلك بإساءتهما استخدام العفو الرئاسي، حيث استغله الأول لتحصين أفراد من عائلته وإدارته أمام المساءلة القانونية، في حين استخدمه الآخر لإطلاق سراح أنصاره من المدانين باقتحام مبنى الكابيتول، وهو أحد رموز السيادة والديمقراطية الأميركية. وكأنّ ترامب بهذا العفو يشجّع المجموعات المتطرفة وغيرها على ارتكاب أعمال منافية للديمقراطية مستقبلًا، لا لشيء إلا لفرض تطلعاتهم وأهدافهم السياسية بالقوة.
وذهبت صحيفة واشنطن بوست إلى اعتبار خطوة الرئيسين السابق والحالي، تقويضًا لسيادة القانون من جهة، وتكريسًا لحالة الانقسام المستفحل من ناحية أخرى. ضف على ذلك أنّ هذا التصرف يفتح الباب أمام الرؤساء القادمين سواءً ديمقراطيين أو جمهوريين للقيام بتحصين "عائلاتهم وأركان إدارتهم من الملاحقة النظرية".
بايدن أهان العدالة الأميركية وقوّض إرثَه السياسي:
لم يكن العفو الذي أصدره بايدن عفوًا بالمعنى القانوني للكلمة، والسبب في ذلك بسيط، إذ أنه عفوٌ لا يبرئ المستفيدين منه "من جرائم محددة"، وبالتالي فالعبارة المناسبة لوصفه هي عبارة "منح الحصانة" أمام المتابعة القانونية لأشخاص ليسوا مشمولين بذلك الامتياز. وعليه فقد أهان بايدن العدالة الأميركية بهذا القرار الذي ختم به عهدته الرئاسية وربما حياته السياسية، ولا يقتصر الموضوع حسب، واشنطن بوست على مجرد الإهانة، بل يكشف عن تناقضات عميقة في بنية تفكير السياسيين الأميركيين، إذ قاد بايدن لجنة القضاء في مجلس الشيوخ لمدة 8 سنوات، كما خاض حملته الانتخابية قبل الانسحاب من السباق الرئاسي لصالح نائبته هاريس بشعارات الدفاع عن المعايير الديمقراطية، وهي نفسها المعايير التي انقلب عليها، عندما أخلف وعده أولًا "بعدم العفو عن ابنه هانتر الذي أدين بارتكاب جرائم ضريبية وجرائم أسلحة خطيرة"، وثانيًا بإساءة استخدام السلطة، مقوّضًا بذلك كلّ إرثه السياسي.
كان العفو الرئاسي الذي أصدره جورج واشنطن سنة 1795 عن متمردي الويسكي وسيلةً للمصالحة السياسية عكس عفو ترامب عن مقتحمي الكابيتول
وكان بايدن قد أصدر قبل مغادرته البيت الأبيض "عفوًا عن ابنه هانتر وآخر استباقيًا عن شقيقه جيمس بايدن وزوجته سارة وشقيقه فرانك بايدن وشقيقته فاليري بايدن أوينز وزوجها جون أوينز عن أي جرائم فدرالية غير عنيفة قد يكونون ارتكبوها منذ عام 2014".
ولم يجد بايدن ما يبرر به هذه الإساءة الصريحة للسلطة إلا القول "إنه شعر بأنه ملزم بالتصرف لأنه يخشى استمرار الهجمات على عائلته"، ويبدو أنّ بايدن غير مدركٍ أنه بهذه القرارات "أعطى مصداقية لاتهامات الجمهوريين لعائلته بأنها استفادت من خدمته الحكومية منذ فترة عمله كنائب للرئيس"، فضلًا عن كونه أقر بشكلٍ ضمني بأنْ لا ثقة لديه في مؤسسات العدالة الأميركية، والحقيقة أنه اعترف بمسألة طالما كررها المنتقدون وهي أن "استقلالية أجهزة إنفاذ القانون عن السياسة كانت دائمًا كذبة أسطورية، فتلك الأجهزة جزء من السلطة التنفيذية التي يسيطر عليها الرئيس".
لم يقتصر "عفو بايدن" على أفراد عائلته، بل شمل أيضًا موظفين بارزين في إدارته، بينهم "الجنرال المتقاعد مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق، وأنتوني فاوتشي، مستشاره الطبي الرئيسي السابق"، بالإضافة إلى "أعضاء لجنة مجلس النواب التي حققت في أحداث اقتحام مبنى الكابيتول 6 كانون الأول/يناير 2021 وكذلك ضباط الشرطة الذين شهدوا في جلسات الاستماع الخاصة بهم".
أحسّ بايدن وهو يوقع على مثل هذه القرارات بإساءته لاستخدام السلطة، ولذلك كتب في معرض تبريره لتلك القرارات: "أنا أؤمن بسيادة القانون. لكن هذه ظروف استثنائية".
من الواضح أن لدى بايدن خوفًا حقيقيًا من انتقام ترامب من عائلته وموظفي إدارته، وهو خوف مبرر، فلطالما عبر ترامب عن نيته في الانتقام ممن كانوا وراء جرجرته في المحاكم وتشويه صورته أمام الرأي العام الأميركي، لكن ذلك ليس كافيًا لإساءة استخدام النفوذ وضرب المعايير الديمقراطية عرض الحائط، والأدهى من كلّ ذلك أنه مهّد للعفو الذي أصدره ترامب لصالح المنقلبين على الديمقراطية.
الحقد والانتقام السياسي:
في المقابل لا يمكن تفسير عفو ترامب الرئاسي عن أنصاره بغير إرادة الانتقام والحقد على خصومه السياسيين، وهي جميعها أسباب لا تمت بالديمقراطية وللتعايش السلمي بصلة، فالرغبة في الولاء السياسي الأعمى كانت هي دافع قرار ترامب بالعفو عن من حاولوا إبقاءه في السلطة في الكابيتول يوم 6 كانون الثاني/يناير 2021، بما في ذلك من تمّت إدانتُهم "بالتآمر على الديمقراطية وإشعال نيران الفتنة السياسية"، كما لم يميز العفو :بين المجرمين الذين اعتدوا على ضباط الشرطة وأولئك الذين دخلوا ممرات الكابيتول"، واكتفى ترامب في تبرير عفوه الرئاسي بالقول إنّ "الأحكام كانت غير عادلة".
لا يمكن تفسير عفو ترامب الرئاسي عن أنصاره بغير إرادة الانتقام والحقد على خصومه السياسيين، وهي جميعها أسباب لا تمت بالديمقراطية وللتعايش السلمي بصلة، فالرغبة في الولاء السياسي الأعمى كانت هي دافع قرار ترامب بالعفو عن من حاولوا إبقاءه في السلطة
في بعض لحظات التاريخ السياسي الأميركي كان العفو الرئاسي أداةً للمصالحة السياسية، ومثالُ ذلك عفو جورج واشنطن الصادر عام 1795 عن متمردي الويسكي الذين انتفضوا ضدّ إدارته وقمع انتفاضتهم بالقوة، لكنّ عفو ترامب هو بخلاف ذلك يُكرّس مزيدًا من الانقسامات في المجتمع الأميركي ويشجّع على العنف في التغيير السياسي.