بين تأجيل الرواتب وانخفاض الأسعار.. الوضع المعيشي في سوريا يزداد سوءًا
20 يناير 2025
تتلو نسرين (43 عامًا) على مسامع جاراتها أسعار المواد الغذائية من إحدى صفحات المحال التجارية على منصة فيسبوك التي انخفضت كثيرًا مؤخرًا. تعلو العيون نظرة من الأمل، سرعان ما تتحول إلى خيبة كبيرة، حين تطلق السيدة صرختها: "الجمل بليرة ومافي ليرة"، يضحكنّ على خيبتهن ويتابعن التحدث عن معاناتهن مع قلة النقود وتوقف الأعمال.
نسرين التي تعيش في منزل صغير في ريف اللاذقية مع زوجها وولديها اليافعين، لم تحصل على راتبها الحكومي بعد، كذلك الحال بالنسبة لزوجها، وتعتمد العائلة على ما يجنيه اليافعان من العمل في إحدى مغاسل السيارات.
"25 ألف ليرة سورية يومية لكل واحد منهما لساعات عمل تبدأ عند التاسعة صباحًا، وتنتهي بحلول الخامسة مساءً"، تقول السيدة، مضيفة لموقع "الترا صوت" أنهم يحتاجون يوميًا ثمانية آلاف ليرة للخبز، إضافة لليتر من البنزين بسعر 16 ألف ليرة، للدراجة النارية التي يستخدمها الولدان للذهاب إلى عملهما، ليتبقى للعائلة 26 ألف ليرة، وهو مبلغ لا يكفي سوى لوجبة واحدة من الخضار يوميًا.
على الرغم من عدم حصول غالبية الموظفين على رواتبهم عن شهر كانون الأول الماضي، إلا أن حكومة تسيير الأعمال السورية اتخذت قرارًا بتحرير المحروقات والخبز
لم تستطع العائلة شراء أسطوانة الغاز التي وصلت رسالة استلامها قبل أقل من أسبوع، واضطروا للتخلّي عنها، واستخدام "بابور الكاز" في الطهي، وللاستحمام الأسبوعي يستخدمون الحطب لغلي المياه.
وقد اتخذت حكومة تسيير الأعمال قرارًا بتحرير سعر المحروقات والخبز عقب استلامها مهامها، ليرتفع ثمن الخبز من 400 إلى أربعة آلاف ليرة، وسط توقف العديد من الأعمال، وعدم حصول غالبية الموظفين على رواتبهم حتى بعد مضي أكثر من 20 يومًا على بدء الشهر الجاري.
وكان وزير المالية، محمد أبازيد، قد أكد في تصريحات صحفية مطلع العام الجاري، أنه سيتم صرف الرواتب مع زيادة 400 بالمئة مع راتب كانون الثاني/يناير الجاري، قبل أن يتم الإعلان عن تأجيل الزيادة حتى شباط/فبراير المُقبل بعد انتهاء عملية الهيكلة لمؤسسات الدولة.
لميس خسرت عملها
طيلة 15 عامًا لم تتوقف لميس (47 عامًا) عن العمل في مكتب تجاري بالقرب من مديرية المالية في مدينة اللاذقية، تطبع الطلبات للمراجعين وتساعدهم على استكمال أوراقهم بحكم الخبرة، وتحصل على راتب كان يصل إلى نحو 500 ألف ليرة، يساعدها في ترميم احتياجات المنزل مع زوجها الموظف الحكومي.
لميس فقدت عملها لأول مرة كانون الأول/ديسمبر الماضي مع توقف عمل مديرية المالية حاليًا، وغياب المراجعين. لجأت لميس لبيع محبسها الذهبي حتى تغطي تكاليف الدروس الخصوصية لابنها الذي يستعد هذا العام لخوض امتحان البكالوريا المصيري في سوريا، ويحتاج شهريًا لأكثر من 400 ألف ليرة، كانت والدته تدفعها وتعيش العائلة براتب الزوج وما تبقى من راتب الزوجة.
صاحبة المكتب أخبرت لميس أنهم غالبًا لن يفتتحوه قبل بداية آذار/مارس المُقبل، الموعد الذي يشاع أنه سيكون بداية عمل مؤسسات الدولة بشكل فعلي، وهذا يعني بالنسبة للسيدة شهرين آخرين بدون دخل. ومع ذلك، لم يكن هذا أقسى ما تعيشه العائلة اليوم، فقد تم إخبار زوجها في مكان عمله الحكومي أنه في إجازة مأجورة لمدة ثلاثة أشهر، لكونه تعيّن أول مرة كموظف في حزب البعث، قبل أن يتم نقله مع بداية عام 2011 إلى مديرية المصالح العقارية.
وأصدرت حكومة تسيير الأعمال قرارًا يقضي بمنح إجازة مأجورة لمدة ثلاثة أشهر لعدة فئات، مثل المفرغين من حزب البعث، والمعينين ضمن مسابقة مسرحيي الجيش، كذلك ذوي قتلى جيش النظام السابق، على الرغم من أن الحكومة الحالية لا تمتلك الصلاحيات اللازمة لاتخاذ مثل هذه القرارات، كذلك على الرغم من الظروف المعيشية المزرية التي يعيشها السوريون اليوم.
تصف لميس حال منزلها اليوم بالمأساوي، ومثله مثل معظم منازل الجيران من حولها، الأسعار رخيصة لكن لا توجد أي أموال يمكن الاعتماد عليها، وتضيف: "سعر البيضة اليوم 1100 ليرة، ومع ذلك لا نستطيع شراء البيض يوميًا، الأمر لا يختلف كثيرًا حين كان سعرها 2500 ليرة، أما اللحوم والدجاج، فتلك أغذية ماتزال من الممنوعات، ونكتفي بشراء بعض الخضار بالنقود القليلة التي تبقت لدينا".
ركود كبير
يعمل إبراهيم (49 عامًا) كموزع لمواد التنظيف، يأتي بالبضائع من دمشق، ويقوم بتوزيعها عبر سيارة على المحال التجارية في ريف اللاذقية والمدينة، توقف عمله بالكامل منذ أكثر من شهر.
يقول إبراهيم إن حركة البيع والشراء متوقفة، كذلك المعمل الذي يتعامل معه في دمشق متوقف حاليًا ريثما يستقر وضع السوق، ويضيف أن المشكلة الأكبر كانت بسعر البنزين، فهو كأي موزع آخر كان يبيع للتجار بالدَين ويحصل على أمواله بشكل أسبوعي خلال زيارته لهم.
لم يستطع إبراهيم ترك الأموال في السوق فهي ليست له إنما للمعمل، وكي يوفر ثمن البنزين قام باستخدام دراجة نارية يذهب بها إلى الأرياف البعيدة ليحل دَيونه، وفي أيام الأمطار يصل منزله مبللًا، لكن لا سبيل آخر لديه، هو مضطر لاستكمال المهمة حتى انتهاء الدَيون بالكامل، ويقول: "تبقى اليوم 20 مليون ليرة آمل أني سأنهيها خلال أسبوعين على الأكثر".
لا يدري الرجل إن كان سيعود للعمل مجددًا، ولا سبيل للبحث عن عمل آخر الآن فكل شيء متوقف ومرهون بتحسن الظروف والعودة للحياة الطبيعية واستقرار سعر الصرف، وحتى راتب زوجته الموظفة متوقف، ولولا عملها عن بعد لكانت العائلة جاعت حقًا، على حد تعبيره.
تراجع في الدخل
حالة الركود الاقتصادي الحالية أدت إلى تراجع الكثير من إيرادات الأعمال البسيطة مثل أصحاب كولبات بيع القهوة، التي كانت تعتبر واحدة من أهم الأعمال لمكافحة بطالة الشباب، فيكفي افتتاح كولبة تزود سائقي السرافيس والسيارات الخاصة بفناجين القهوة، ليضمن أي شخص مردودًا يكفي احتياجات عائلته.
هذا كان حال فادي (43 عامًا) قبل ارتفاع أجور الباصات وتراجع الأعمال، الرجل الذي كان عمله كافيًا لتأمين احتياجات عائلته من طعام وشراب وحليب لطفلته الرضيعة، يعجز اليوم عن دفع مبلغ 110 آلاف ليرة أسبوعيًا ثمن علبة الحليب.
يقول فادي الذي يمتلك كولبة بيع قهوة على الطريق العام في قرية مرخو بريف اللاذقية، إن جيرانه من أصحاب المحال التجارية باتوا يشترون فنجان القهوة البالغ ثمنه 2500 ليرة بالدَين صباحًا، على أن يدفعوا ثمنه مع قدوم الزبائن والحصول على الغلّة. ومع ذلك، فإنهم يتنصلون لاحقًا ويطلبون تأجيل الدفع حتى نهاية الأسبوع، وهو ما يسبب له إرباكًا كبيرًا إذ إنه يحتاج الحصول على المال للحفاظ على رأس المال وشراء لوازم البيع، كذلك الحصول على الأرباح لتزويد عائلته باحتياجاتها.
وتزداد حالة عائلة فادي سوءًا مع عدم حصول زوجته على راتبها الحكومي بعد حتى يوم الخميس 20 من كانون الثاني/يناير الجاري، رغم أنها كانت تحصل عليه بحلول اليوم الخامس من الشهر ذاته على أبعد تقدير.
ولم يحصل معظم الموظفين على رواتبهم بعد، وتوجه "الترا صوت" بالسؤال للموظفين في مديرية السياحة والمالية والسكك الحديدية، وكذلك في البلديات، حيث أكدوا أنهم لم يحصلوا على رواتبهم حتى يوم الخميس التاسع من كانو الثاني/يناير الجاري. بينما قال متقاعدون مدنيون إنهم حصلوا على رواتبهم بدون أي زيادة، بخلاف المتقاعدين العسكريين حتى ما قبل 2011، والذين لم يستلموا رواتبهم بعد رغم أن معظمهم من الفئات الهشة التي تحتاج إلى غذاء ودواء بشكل عاجل.
في حين حصل موظفون في التلفزيون الرسمي ومديريات التربية ومتقاعدون مدنيون على رواتبهم بعد 15 كانون الثاني/يناير الجاري، أما الموظفون في مبنى المحافظة والخدمات الفنية، فإنهم يحصلون على رواتبهم تباعًا، بمجرد انتهاء التقييم الفردي الذي يجري اليوم.