بين روسيا وترامب.. سياسة فرض السلام بالقوة
13 فبراير 2025
شهد هذا الأسبوع عرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على الروس مقايضة الأراضي التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية داخل روسيا بتلك التي تسيطر عليها روسيا داخل بلاده، لكنّ مقترح زيلينسكي لم يرُقْ لموسكو، حيث وصفه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري مدفيدف بـ"الهراء". ولم تكتفِ روسيا بالرد الكلامي، وإنما عمدت إلى إمطار العاصمة كييف فجر أمس الأربعاء بعشرات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، الأمر الذي أدى إلى سقوط ضحايا وإلى أضرار في البنية التحتية.
اختار مدفيدف مفهومًا لافتًا للانتباه لتوصيف الضربات الروسية على كييف، بقوله إنها تعدّ جزءًا من "مفهوم فرض السلام بالقوة". وكان الرئيس ترامب قد تعهّد، في ولايته الرئاسية الجديدة، أيضًا باعتماد نهج "سياسة السلام من خلال القوة". ولا نعرف ما إذا كان هذا "التوافق" قد حصل من باب المصادفة، أم يعدّ تعبيرًا عن منعطفٍ جديد في تدبير واستخدام القوة العسكرية من قبل قوتين عظيمتين في النظام الدولي، هما روسيا والولايات المتحدة، أم أنه مجرد تغطيةٍ إعلامية أو دعاية لا تمتّ لهدف السلام بصلة؟
التوظيف الروسي لمفهوم فرض السلام بالقوة:
يمكن الحديث عن صيغتين تاريخيتين لمفهوم فرض السلام بالقوة. الصيغة الأولى وُلدت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وذلك عندما بدأت تنتشر ظاهرة القوات الدولية المسؤولة عن حفظ السلام في بؤر التوتر، بتكليفٍ من مجلس الأمن الدولي. وتحضر في الأذهان نماذج مثل "المينورسو" و"اليونيفيل". لكن ما يغفل عنه كثيرون هو أن بداية هذا النموذج (فرض السلام بالقوة) كانت فعليًّا مع توجه الرئيس الأميركي رونالد ريغان، مطلع ونهاية الثمانينيات، إلى رفع ميزانية الدفاع بشكلٍ كبير في مواجهة التحدي السوفييتي، ودخول إدارته، من جهة أخرى، في مفاوضات مع الاتحاد السوفييتي أفضت في النهاية إلى اعتماد سياسات البيريسترويكا، التي ساهمت في تفكيك الاتحاد لاحقًا عام 1990. وبذلك أُسدل الستار على حقبة الحرب الباردة وساد ما سُمّي حينها "السلام العالمي"، بفضل القوة الأميركية التي لا تُقهر.
وقد وجد المفكّر الإستراتيجي الأميركي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، في ذلك الحدث فرصة مناسبة لإعلان "نهاية التاريخ"بانتصار النموذج الأميركي الليبرالي على ما عداه من المشاريع الإيديولوجية الكبرى.
أما الصيغة الثانية، وهي الأقرب إلى النموذج الذي تستخدمه روسيا في مفهوم فرض السلام بالقوة، فهي تلك التي سادت في أواخر القرن الرابع الميلادي، عندما قال الكاتب الروماني فيجيتيوس ريناتوس إن "من أراد السلام، فعليه أن يستعدّ للحرب".
فيجيتيوس ريناتوس: على من أراد السلام، أن يستعدّ للحرب.
قرأ الأوكرانيون في الهجوم الروسي الجديد على العاصمة كييف أن موسكو لا تريد السلام بقدر ما تسعى إلى تركيع الأوكرانيين ومواصلة التهام المزيد من أراضيهم، غير مكتفيةٍ بسيطرتها الحالية على نحو 20% من كامل مساحة أوكرانيا، في حين لا تسيطر القوات الأوكرانية إلا على حوالي 450 كيلومترًا مربعًا من منطقة كورسك الروسية.
وفي هذا الصدد، قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي، عقب الهجوم الأخير على كييف، إن "بوتين لا يستعدّ للسلام، بل يواصل قتل الأوكرانيين وتدمير المدن"، داعيًا حلفاء بلاده إلى ممارسة المزيد من "الضغوط على موسكو".
مقايضة الأراضي في مفاوضات السلام:
كشف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقابلته الأخيرة مع صحيفة "الغارديان" البريطانية، أنه سيطرح على الروس، خلال أي مفاوضات لإنهاء الحرب والتوصل إلى سلامٍ دائم، فكرة مقايضة الأراضي التي تسيطر عليها القوات الأوكرانية في منطقة كورسك الروسية بأراضٍ أوكرانية تحتلها روسيا. وقال زيلينسكي: "سنتبادل منطقة مقابل أخرى".
لكنّ رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري بيسكوف، ونائبه ديمتري مدفيدف، اعتبرا الفكرة "مجرد هراء"، وذهب بيسكوف إلى اعتبار الأمر مستحيلًا، قائلًا إن روسيا "لم تناقش قط ولن تناقش مسألة مبادلة أراضيها"، مخيّرًا، في المقابل، القوات الأوكرانية في كورسك بين "التدمير أو الانسحاب من المنطقة التي تسيطر عليها هناك"، مؤكّدًا أن روسيا "لن تتخلى عن أيّ قطعة من أراضيها".
ترامب صانع سلام؟
في أحدث تصريح له حول الحرب الروسية الأوكرانية، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الخميس 12 شباط/فبراير الجاري، إن على أوكرانيا "صنع السلام"، مضيفًا أنه "من غير المرجح أن تستعيد أوكرانيا كل أراضيها".
مثلُ هذا التصريح غير مطمئنٍ بالمرة لكييف، كما أنه يُعدّ دليلًا، حسب البعض، على أنّ ترامب يريد إنهاء الحرب بأي ثمن. ومن المرجّح أن يكون دافع ترامب في ذلك هو حرصه على تقديم نفسه كصانعٍ للسلام، وبالتالي قطع خطوة إضافية نحو تحقيق حلمه بالحصول على جائزة نوبل للسلام، على غرار سلفه الديمقراطي باراك أوباما.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم تبنّي ترامب لنموذج سياسة فرض السلام من خلال القوة، مقلّدًا في ذلك كلًّا من ريغان وهنري كيسنجر، الذي تبنّى المفهوم ذاته.
ولتحقيق هذا الشعار، تعهّد ترامب خلال حملته الرئاسية ببناء "قوات مسلحة أميركية قوية"، بالإضافة إلى تعهّده بإنهاء جميع الحروب التي اندلعت خلال عهد الرئيس السابق جو بايدن.
السؤال المطروح هنا هو ما إذا كان ترامب يمتلك الذكاء الضروري لتحويل مفهوم "فرض السلام بالقوة" من مجرد شعار إلى سياسة فعالة، كما فعل ريغان، الذي استطاع تحسين القدرات العسكرية الأميركية من جهة، ودفع الخصم الرئيسي للولايات المتحدة، المتمثل حينها في الاتحاد السوفييتي، إلى تفكيك نفسه من جهة أخرى.
ترى إدارة ترامب أن الصين تمثل التحدي الأكبر للولايات المتحدة، وتحاول إدارته احتواء قوة الصين من خلال سياسة الضغوط الاقتصادية، التي بدأ ترامب فعليًا في ممارستها عبر فرضه تعريفات جمركية بنسبة 10 % على جميع الواردات الصينية. لكن ليس من المؤكد ما إذا كان شنّ حرب تجارية على الصين سيؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود، أم أنه سيقود إلى نتائج عكسية تهدد السلام العالمي، خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار أن ترامب سبق أن جرّب هذا النهج في ولايته الرئاسية الأولى، ولم يحقق نتائج ذات قيمة كبيرة.