تصاعد خطاب الإبادة في إسرائيل.. من التلميح إلى التصريح العلني
3 يمشي 2025
يرصد الصحفي الإسرائيلي ميرون رابوبورت، في مقال منشور بموقع "ميدل إيست آي"، تحولًا خطيرًا في الخطاب السياسي والمجتمعي داخل إسرائيل، حيث أصبحت الدعوات إلى تهجير الفلسطينيين أو حتى إبادتهم تُطرح علنًا ودون مواربة، بعد أن كانت في السابق محصورة في الدوائر اليمينية المتطرفة.
يقول رابوبورت: "ما كان قبل سنوات يُقال خلف الأبواب المغلقة أو بصياغات ملتوية، بات اليوم جزءًا من الخطاب العام الذي يتبناه سياسيون ومسؤولون وفنانون ومؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي".
التحول الأخطر لا يكمن فقط في تبني التهجير كسياسة رسمية، بل في انتقال الخطاب الإسرائيلي إلى الدعوة العلنية للإبادة الجماعية
يشير الصحفي الإسرائيلي إلى أن جذور هذا الخطاب تعود إلى خطة كشف عنها موقع "لوكال كول" في تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي صاغتها وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية السابقة، غيلا غملئيل، وكانت تتحدث صراحة عن إخلاء سكان غزة إلى سيناء. حينها، تلقت الخطة اهتمامًا عالميًا كبيرًا، واعتُبرت دليلًا على أن الهدف الحقيقي للحرب الإسرائيلية على غزة لم يكن القضاء على حلاكة حماس، بل تفريغ القطاع من سكانه. لكن في إسرائيل، لم تلقَ هذه الخطة اهتمامًا واسعًا، ربما بسبب ضعف موقع غملئيل السياسي، وربما لأن الإعلام الإسرائيلي يتجنب الحديث عن جرائم الحرب المخطط لها.
جهاز الإحصاء الفلسطيني: الإبادة الجماعية التي تنتهجها قوات الاحتلال الإسرائيلي في #غزة تسببت بانخفاض عدد سكان القطاع بنسبة 6 بالمئة. pic.twitter.com/SVldPHeQZw
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 1, 2025
ولكن بعد 16 شهرًا من نشرها، أصبحت خطة وزير الاستخبارات السابقة هي السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية. حتى عندما حاولت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تخفيف وقعها وتقديمها على أنها مجرد "خيار" وليس "إخلاءً قسريًا"، أصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على دعم الخطة، واصفًا إياها بأنها "سابقة تاريخية". في الوقت ذاته، بدأ وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، بوضع آليات لتنفيذ ما سماه "الخروج الطوعي" لسكان غزة، وهو ما يُعد تكرارًا شبه حرفي لما ورد في خطة غملئيل.
لكن التحول الأخطر لا يكمن فقط في تبني التهجير كسياسة رسمية، بل في انتقال الخطاب الإسرائيلي إلى الدعوة العلنية للإبادة الجماعية. فخلال الأشهر الماضية، صدرت عن مسؤولين وشخصيات عامة تصريحات كانت حتى وقت قريب تُعتبر غير مقبولة حتى داخل التيار اليميني الإسرائيلي.
من التهجير إلى الإبادة الجماعية
في هذا السياق، يُبرز رابوبورت عدة أمثلة على هذا التحول الجذري، منها تصريحات نائب رئيس الكنيست، نيسيم فاتوري، الذي قال مؤخرًا: "يجب فصل النساء والأطفال عن الرجال البالغين في غزة، ثم قتل جميع الرجال". وإذا كان فاتوري يُعد سياسيًا هامشيًا إلى حد ما، فإن خطورة كلامه تكمن في أنه يعكس توجهًا بات متجذرًا في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
لم يقتصر الأمر على السياسيين، بل امتد ليشمل شخصيات إعلامية وفنية. المحامية كينيريت باراشي، وهي مؤثرة يمينية معروفة، كتبت في منشور على منصة "إكس"، أنه يجب "محو كل أثر للفلسطينيين في غزة، من غرف الولادة إلى آخر مسن هناك. يجب أن يموت 100% من سكان غزة".
كذلك، لم يتردد الممثل الإسرائيلي يفتاح كلاين في التصريح خلال مقابلة إعلامية بأنه "لا يريد رؤية الفلسطينيين أبدًا، ويتمنى أن يختفوا إلى الأبد".
أما المغني عوفر ليفي، فذهب أبعد من ذلك، إذ قال في مقابلة إذاعية إنه لو كان جنديًا في الجيش، "لما ترك أي أسير فلسطيني على قيد الحياة، بل كان سيحرقهم جميعًا".
وإذا كان وزير التراث عميحاي إلياهو قد اضطر إلى التراجع عن تصريحه في بداية الحرب بأن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو "إحدى الطرق" للتعامل مع حماس، فإن مثل هذه التصريحات تُقال الآن علنًا دون أي محاولة لإخفائها أو تلطيفها.
منظمة العفو الدولية: إسرائيل ارتكبت ثلاثة أنماط لـ"الإبادة الجماعية" في غزة.
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) December 5, 2024
اقرأ أكثر: https://t.co/CDRZy9ZqVA pic.twitter.com/bHvSjzj8Rn
هذه التصريحات، التي كانت قبل سنوات تُعد "شاذة أو صادرة عن أصوات متطرفة معزولة" بحسب رابوبورت، باتت اليوم جزءًا من التيار السائد في إسرائيل. وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلي لم يعلن رسميًا تبنيه لسياسات إبادة، فإن الإجراءات الميدانية، مثل القصف المكثف والتجويع والحصار الشامل، تعكس أن هذه الأفكار بدأت تجد طريقها إلى التطبيق الفعلي.
وقف إطلاق النار وتأجيج مشاعر الانتقام
يرى رابوبورت أن تصاعد هذا الخطاب جاء تحديدًا بعد وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني/يناير 2024. فبعد شهور من القصف والدمار، عاد عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال غزة، مما شكل ضربة نفسية قاسية للإسرائيليين الذين كانوا يتوقعون أن التهجير القسري قد نجح.
وبدأت مشاعر الإحباط والغضب تزداد مع المشاهد التي بثتها حركة حماس خلال عمليات تبادل الأسرى. حيث رأى الإسرائيليون كيف استقبل الفلسطينيون الأسرى المحررين بالاحتفالات، وهو ما عزز لديهم الشعور بأن الفلسطينيين لم يُهزموا، بل إنهم لا يزالون صامدين. بلغت هذه المشاعر ذروتها عندما نُظمت مراسم لتسليم جثامين بعض القتلى الإسرائيليين، التي أعادت للأذهان صدمة هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
كل هذه العوامل، بحسب الصحفي الإسرائيلي، عززت الشعور في المجتمع الإسرائيلي بأن الفلسطينيين لا يمكن إرغامهم على الرحيل، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو قتلهم.
خطط عسكرية تعكس هذا الخطاب
لكن الأخطر من مجرد الخطاب هو محاولات تحويل هذه الدعوات إلى سياسات عملية. إذ يكشف رابوبورت عن خطط وضعها وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، وقدمتها إسرائيل للولايات المتحدة، والتي تتضمن احتلال القطاع بالكامل، وتدمير كل ما تبقى من مبانٍ، باستثناء مناطق محددة لإيواء الناجين، حيث سيتم توزيع الطعام فقط داخلها.
وبحسب تقرير آخر نشرته صحيفة "هآرتس"، فإن مسؤولين إسرائيليين طرحوا علنًا فكرة إقامة "مناطق قتل" خارج المجمعات المحددة، بحيث يكون كل من يبقى خارج هذه المجمعات محكومًا عليه بالموت.
منصات التواصل الاجتماعي باتت مساحة يروج فيها جنود الاحتلال لأفعالهم التي تشجع على ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة، بحسب مركز "صدى سوشال".
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 30, 2024
اقرأ أكثر: https://t.co/XxuercrB0f pic.twitter.com/rJgTw2OYe2
الإبادة الجماعية: خطر لم يعد مستبعدًا
يخلص الكاتب إلى أن ما يجري ليس مجرد خطابات منفلتة من شخصيات متطرفة، بل هو إعداد نفسي وسياسي لمستقبل أكثر دموية. فبينما كانت إسرائيل تعتمد سابقًا على سياسات التهجير القسري، فإن الفشل في تنفيذ ذلك خلال الحرب الأخيرة أدى إلى تصاعد خطاب الإبادة كبديل "منطقي" في أعين العديد من الإسرائيليين.
ما يزيد من خطورة هذا الاتجاه هو أن القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة، لم تتخذ حتى الآن أي خطوات جدية لوقف هذا التصعيد، مما قد يشجع الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ إجراءات أكثر تطرفًا خلال الفترة المقبلة.
في النهاية، يحذر رابوبورت من أن هذا التطبيع لخطاب الإبادة هو أخطر تطور تشهده إسرائيل منذ عقود، حيث لم يعد الأمر يتعلق فقط بالقادة العسكريين أو الساسة اليمينيين، بل أصبح تيارًا فكريًا يجد قبوله في أوساط واسعة من المجتمع الإسرائيلي. وإذا لم يتم وضع حدّ لهذا الاتجاه، فإن السيناريوهات القادمة قد تكون أكثر عنفًا وكارثية مما شهده العالم حتى الآن.