حكايات عن عمر الشريف في ذكرى رحيله
12 يوليو 2016
في ذكرى وفاته، لم يضع عمر الشريف هذا اليوم في حساباته. حين سألوه.. لماذا لا تكتب مذكراتك؟
قال إنها ليست ملكه وحده، وإنما ملك كل من عاشوا معه، وعاشروه، وشغلوا مساحة في حياته.. "أنا مش موجود في المذكرات دي لوحدي، ده مش فيلم له بطل واحد، لو حكيت عن نفسي لازم أذكر سيرة ناس كتير حواليا، أزاي أقبل على نفسي أكسب ملايين وأسيء لغيري؟ أو أحكي عنهم حاجات هما مش عاوزين يعلنوها؟".
بعض الجرائد الصفراء افترت على عمر الشريف، وكتبت له مذكرات لا يعرف عنها شيئًا ونشرتها باسمه
بعض الجرائد الصفراء افترت عليه، وكتبت له مذكرات لا يعرف عنها شيئًا، ونشرتها باسمه، أكدت أن ما بها "بلاوي" وخبايا ظلَّت غائبة عن المشاهد العربي لفترات طويلة. والآن، لا بد أن يعرفها المشاهد العربي. اختارت لها اسم "لورنس العرب"، ومن بين ما تضمّنته المذكرات "المضروبة" زواجه من سهير رمزي سرًا، وفترة اقترابه من الممثلة اليهودية، باربرا سترايسند، لكن هل هذا كل ما في الأمر؟
نعم.. كانت "فرقعة" بلا دليل، ولا مصدر، أصدر عمر بيانًا صحفيًا فيما بعد ليؤكد أن المذكرات ليست حقيقية، إنما منسوبة له، فهو "مفترى عليه". ترك عمر الشريف فراغًا كان لا بد أن يسده بروايته الشخصية عن حياته، وتصادف سعي بعض من لا يعرفون شيئًا عنه إلى القليل من الأضواء فاستغلوا الموقف لينالوا الشرف الكبير، وملؤوا مذكراته المزعومة بروايات كاذبة، وقصص ليست عنه، وناس لم يعيشوا في حياته.
"دكتور زيفاجو" ينسى أدواره
في آخر حياته، ذاكرة عمر الشريف لم تحتمل. امتلأت بذكريات من القاهرة وهوليوود وباريس، وكل بلاد الدنيا التي زارها، ولم يعد يتذكرها. أكد نجله، طارق، أنه مصاب بمرض الزهايمر. التقطت صحيفة "ديلي ميل" طرف الخيط، في تقرير بعنوان "دكتور زيفاجو ينسى أدواره". وقال طارق: "عمر شريف لم يعد يذكر إلا فاتن حمامة، ينام ويقوم ليسأل عنها.. فاتن عاملة إيه؟".
يؤكد تقرير الصحيفة أن عمر لا يتذكر الأعمال الكبرى له: دكتور زيفاجو، ولورنس العرب، وينسى متى وأين صوّرت، وعند تذكيره بأدواره في هوليوود، يصاب بحالة ارتباك. "العالمي" اعترف في مقابلة صحفية عام 2013 أنه "ينسى كثيرًا"، لكن، من وجهة نظره، شيء إيجابي أن تنسى، يعني أنك لم تعد تركز على الماضي، ولا ترى إلا مستقبلك.
لكن موقفه من فاتن حمامة مختلف، تدهورت حالته بعد وفاتها، ووصلت إلى حد لا يقدر المقرَّبون منه على احتماله، لكنه ربما لا يكون مرض النسيان وحده. سيقول البعض إنه شيء من الحزن أثر على دماغه، لكن الحقيقة إنها لمسة حنين يصاب بها أهل الهوى فقط. في آخر حياته، ذاكرة عمر الشريف لم تحتمل. امتلأت بذكريات من القاهرة وهوليوود وباريس، وكل بلاد الدنيا التي زارها، ولم يعد يتذكرها.
فاتن.. كلمة السر
فاتن حمامة كلمة سر أيضًا، ولغز ستفشل الأيام في فك طلاسمه. فاتن كان لديها مبدأ واضح، لا تقبل أحدًا، لا تقبل الأحضان "المبالغ فيها" حتى لو كانت في سياق الدراما. في فيلم "صراع في الوادي" كان، ضمن السيناريو، مشهد حضن مع عمر الشريف انقلب إلى "بوسة" حقيقية لا تمانع "سيدة الشاشة" في أن تؤديها إلى آخر لحظة.
كانت متزوجة من عز الدين ذو الفقار، لكن النجم الوسيم، ميشيل، استجمع قوته، وسحره الذي أوقعها في أسره. وهمس لها: "مدام فاتن.. أنا بحبك". تروي فاتن هذا المشهد: "حين رأيت عمر للمرة الأولى لم أغادر مكاني بضع دقائق، وشعرت أمام كلماته الرقيقة أنني تلميذة صغيرة تستمع إلى أول عبارة إعجاب، بالرغم من أنه علق فقط على صور كان الفنان صلاح طاهر قد رسمها لي، وعلقتها على حائط الشقة".
تحول ميشيل شلهوب إلى عمر الشريف لكي يتزوج فاتن وطلبت هي الطلاق من زوجها لتتزوجه. وبدأت "الحدوتة" التي ستنتهي بسفره إلى هوليوود، وتجد نهاية أخرى حين تنتقل فاتن إلى العالم الآخر، فتنتهي الحياة في نظر عمر الشريف ولا يصدق، حتى رحيله، أنها ماتت.
تحول ميشيل شلهوب إلى عمر الشريف لكي يتزوج فاتن وطلبت هي الطلاق من زوجها لتتزوجه وبدأت "الحدوتة" التي انتهت بسفره إلى هوليوود
كرسي مريح في "الجونة"
لا يقتحم عمر الشريف الحياة كما تعوّد، لا يرمي نفسه في بحارها كما فعل في "صراع في الوادي"، يكتفي بأن "يتفرَّج عليها" من فوق كرسي مريح بـ"الجونة". لم يخلع عمر الشريف حبه للحياة، وذكرياته فقط، إنما خلع نفسه من الحياة، واكتفى بالخروج بهدوء.
باربرا سترايسند عكسه تمامًا، قالت إنها ستكتب مذكراتها، ولم ترحم "العالمي" من الاعترافات. كانت في طريقها إلى شقة عمر الشريف في هوليوود بعدما اشتركت معه في بطولة فيلم، وبدأت قصة حب بينهما في الكواليس. تقول عنها: "كنّا سنتزوج لولا معارضة اللوبي الصهيوني في أمريكا، لأن عمر من أصل عربي".
العلاقات الشخصية لعمر الشريف جامحة وكاذبة، ومشوَّهة بما يكفي. جولي آندروز، وصوفيا لورين، وآفا جاردنر، وانجريد برجمان، وديانا لوند، وايلسا كاردنيس، وفلوريندا بولكين، وأنوك إيمي.. سجل واسع من العلاقات "المشروعة وغير المشروعة" مع فنانات هوليوود لن ينساه أحد. هل بقي لـ"عمر" شيء لم يفعله؟ بالطبع.. لا.
الموت الثالث لـ"عمر"
مات عمر الشريف أكثر من مرة. مع وفاة أحمد رمزي، ومع وفاة يوسف شاهين، ومع رحيل "فاتن".. كل من عاش معه راح وأخذ جزءًا منه، حتى أخذوه كله معهم الآن. أصبح إنسانًا بلا ذكريات، وبلا تاريخ. لم يعد موجودًا إلا على صفحات الجرائد.
أشهر شجار في حياة عمر الشريف من إخراج "جو". كان يريد أن يخرج بأفضل مشهد ممكن في "خناقة" بين عمر وأحمد رمزي، فصنع شجارًا حقيقيًا. طلب من رمزي أن "يعاكس" فاتن حمامة أمامه لكي ينفعل عمر الشريف، ويضربه "بحق وحقيق" في المشهد، وليس تمثيلًا. يقال إن أحمد رمزي كان السبب في انفصاله عن فاتن، وصل الكلام إلى عمر الشريف، فبدأت القطيعة، واستمرت 8 سنوات. ويقال إن "رمزي" كان يحب "فاتن". عمر كان يعرف جيدًا أن العلاقة لا تصل إلى الحب.. ربما إعجاب فقط. ظلَّا أصدقاء 60 عامًا، قليل من القطيعة كان لازمًا لاستمرار العلاقة، و"الغيرة" ليست كافية للخصام المؤبَّد.
كواليس مشهد النهاية
من يشهد على نهاية عمر الشريف إذًا؟ لا يريد الرجل أن يبدو ضعيفًا أمام أحد، فالضعف والقهر لا يليقان به. البراح، فقط، يسمح له بأن يعيش كما يريد ويحب، فقد اختبر الحياة وعرف آخرها، كما اختبر الموت. وهذه قصة أخرى.
في كواليس أحد أفلامه، أخذ محمود المليجي "شفطة" من فنجان القهوة ثم جلس على كرسيه وقال لـ"عمر": "يا أخي الحياة دي غريبة جدًا.. الواحد ينام ويصحى وينام ويصحى وينام ويشخر"، وسكت ومال برأسه، ونام بعمق، وعلا صوت شخيره، ثم انقطع فجأة. ليس إتقانًا للدور المكتوب له وإنما إتقان للمشهد الأخير في حياته. كان رد "عمر": "ايه يا محمود؟ خلاص؟!
نفس المليجي انقطع للمرة الأخيرة.. لم تكن عنده إجابة، فالقدر اختار له ألا يتكلم مرة أخرى. صمت للأبد.. ومات في حضرة عمر الشريف. أمّا عمر الشريف فرفض أن يموت بين يدي أحد في المرة الرابعة. ابتعد.. واختار أن يموت وحيدًا.