خمسة أهداف محورية.. ماذا تريد إسرائيل من استئناف الحرب في غزة؟
21 يمشي 2025
لم يكن استئناف قوات الاحتلال لعملياتها العسكرية المباغتة في قطاع غزة، فجر الثلاثاء الماضي، والذي أسفر في غضون ساعات قليلة عن مئات الضحايا (أكثر من 400 شهيد وما يزيد عن 500 مصاب، معظمهم من النساء والأطفال)، مفاجئًا لغالبية المتابعين للمشهد. فمثل هذا النهج هو سِمة عامة للكيانات الاحتلالية، وإسرائيل ليست استثناءً، بل تُجسّد ذلك بوضوح.
غير أن الجميع كان يراهن على التزام حكومة بنيامين نتنياهو بالاتفاق المُبرم، الذي دخل حيز التنفيذ في كانون الثاني/يناير الماضي، رضوخًا للولايات المتحدة، كونها، إلى جانب مصر وقطر، راعية هذا الاتفاق والضامن الأبرز لاستمراره وتنفيذ كافة مراحله، لكن سٌرعان ما انقلب الوضع رأسَا على عقب بعد تولي دونالد ترامب السلطة رسميًا بداية هذا العام، ومنحه الضوء الأخضر لجيش الاحتلال لارتكاب ما يحلو له دون أي سقف أو خطوط حمراء.
القراءة الهادئة للمشهد تذهب باتجاه نسف المزاعم الإسرائيلية لتبرير تلك العملية، فاستئناف الحرب لم يكن رد فعل على تعنت حماس كما يبرر المحتل وحليفه الأميركي، لكنه قرار مدروس بعناية، ومخطط له سلفًا
وفي الوقت الذي تناثرت فيه الأنباء يمينًا ويسارًا حول إيجابية المفاوضات التي انخرطت فيها الإدارة الأميركية ولأول مرة وجهًا لوجه مع قادة حماس في الدوحة قبل أيام، إذ بالمشهد يتغير 360 درجة، بعدما رفضت الحركة مقترح مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، الذي سعى من خلالها لتجريد المقاومة من ورقة الأسرى عبر تمديد فترة وقف إطلاق النار 50 يومًا نظير إطلاق سراح 5 محتجزين إسرائيليين، دون الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق والتزاماتها التي تقضي بانسحاب جيش الاحتلال من كافة مناطق القطاع وفتح المعابر وإدخال المساعدات وإعادة الإعمار.
وبعد رفض حماس وبقية الفصائل لمخطط ويتكوف، وما يترتب على ذلك من صعوبة تمريره، جاء الرد حاسمًا وبمنتهى الوحشية، وبدون سابق إنذار، لتشن قوات الاحتلال، بضوء أخضر أميريكي كما أعلن البيت الأبيض، سلسلة غارات عنيفة استهدفت مخيم المغازي وسط القطاع وخانيونس ورفح جنوبًا ومخيم جباليا وبيت حانون شمالًا، شاركت فيها 100 طائرة حربية، لتنسف إسرائيل بشكل رسمي هدنة وقف إطلاق النار، لتعود حرب الإبادة، التي استمرت أكثر من 470 يومًا، إلى سابق وتيرتها العنيفة.
القراءة الهادئة للمشهد تذهب باتجاه نسف المزاعم الإسرائيلية لتبرير تلك العملية، فاستئناف الحرب لم يكن رد فعل على تعنت حماس كما يبرر المحتل وحليفه الأميركي، لكنه قرار مدروس بعناية، ومخطط له سلفًا، يرتكز إلى عدة اعتبارات ومصالح سياسية واستراتيجية لكل من نتنياهو وترامب، يهدف إلى تحقق 5 أهداف رئيسية، بشكل فردي أو كلها مجتمعة في آن واحد.
أولًا: الضغط على حماس
توقن حكومة الاحتلال كما يوقن ترامب أنه بات من الصعب الحصول من المقاومة على امتيازات إضافية أو مزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات بالطرق الدبلوماسية، وهو ما برهنته عشرات الجولات من المباحثات، مع الوسطاء ومع ممثلي الاحتلال والإدارة الأميركية.
وما لم يتحقق بالسياسة، يسعى نتنياهو وجنرالات جيشه إلى فرضه بالقوة العسكرية، وعلى رأسهم وزير الأمن. هذه هي الاستراتيجية التي عكستها تصريحات النخبة السياسية والعسكرية في الكابينت الإسرائيلي، وأكدتها تقارير وتصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الحكومة وعدد من الوزراء والمقربين من دوائر صنع القرار.
ومن ثم جاء هذا التصعيد الذي حمل لغة مختلفة عن سوابقه، إذ اعتمد الاغتيالات هدفًا رئيسيًا له، مُركزا على قيادات الصف الأول في حكومة غزة، حيث استهدف رئيس حكومة غزة، عصام الدعاليس، وعضوَي المكتب السياسي لحركة حماس محمد الجماصي وياسر حرب، إلى جانب وكيل وزارة العدل المستشار أحمد الحتة، ووكيل وزارة الداخلية اللواء محمود أبو وطفة، ومدير عام جهاز الأمن الداخلي اللواء بهجت أبو سلطان.
تراهن حكومة نتنياهو على إضعاف القدرات التنظيمية للمقاومة عبر سياسة تصفية القيادات، في محاولة لفرض ضغوط كبيرة على القرار السياسي لحماس وبقية الفصائل، ودفعهم نحو الهرولة إلى طاولة المفاوضات، رافعين الرايات البيضاء، ومُذعنين لإملاءات الاحتلال والولايات المتحدة، التي تتضمن إطلاق سراح جميع المحتجزين دفعة واحدة، وتسليم السلاح، وإبعاد القادة عن قطاع غزة. تلك هي أوهام رئيس حكومة الاحتلال وحليفه الأكبر في البيت الأبيض.
ثانيًا: إنقاذ الائتلاف الحكومي من الانهيار
بعد الرضوخ لاتفاق وقف إطلاق النار في كانون الثاني/يناير الماضي، تعرض الائتلاف الحكومي الإسرائيلي لهزة عنيفة كادت أن تطيح به، خصوصًا بعد انسحاب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وعدد من وزراء حزبه اليميني المتشدد، ما أفقد الائتلاف الأغلبية اللازمة لتمرير القرارات والإجراءات التي تُبقيه في السلطة.
وكان دافع هذه الانسحابات الأساسي هو الاعتراض على الموافقة على وقف إطلاق النار وإبرام صفقة مع حركة حماس، وهو انسحاب اشترط قادته إنهاءه بالعودة إلى الحرب والانقلاب على الاتفاق. ومع انتهاء المرحلة الأولى من الصفقة، وهي المرحلة الأخف على إسرائيل من حيث الأعباء والالتزامات، والمتمثلة في إدخال بعض المساعدات وإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين، بدأ الحديث مجددًا عن استئناف العمليات العسكرية.
ومع اقتراب الدخول في المرحلة الثانية التي تتضمن التزامات قاسية على المحتل، والتي تعني عمليًا نهاية الحرب بشكل رسمي وفرض التهدئة المستمرة، وجد نتنياهو نفسه في مأزق، إذ أن إنهاء الحرب معناها نهاية مشواره السياسي، وتعريضه للملاحقات القضائية التي لا تتوقف، تارة بتهم الفساد وأخرى بتهم الفشل في إدارة المعركة.
وعليه وجد في عودة القتال مرة أخرى فرصة ذهبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظل الدعم المطلق من قبل الإدارة الأميركية، وهو ما حدث، فبعد ساعات قليلة من شن تلك العمليات، عاد بن غفير لمنصبه في الحكومة كوزير للأمن القومي، فيما انضم حزبه للائتلاف مرة أخرى، ليستعيد قوته ومكانته وأغلبيته داخل الكنيست.
ثالثًا: تمرير الموازنة العامة
نتنياهو كان على موعد مع أزمة داخلية ساخنة، قد تُطيح بحكومته خارج المشهد السياسي، وتدفع نحو إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، وذلك إذا لم يقر الكنيست الميزانية العامة لإسرائيل لعام 2025 حتى نهاية الشهر الجاري، وهي المهلة المحددة للحكومة لتقديمها.
وفي حال لم يتم إقرار تلك الميزانية بحد أقصى مساء 31 آذار/ مارس الجاري ، سيتم حل الكنيست، والإعلان فورًا عن انتخابات برلمانية خلال 90 يومًا، ستكون على الأرجح في تموز/يوليو ما يعني أن نتنياهو سيكون خارج المشهد السياسي بنسبة كبيرة، ليجد نفسه بين مطرقة الاستهداف السياسي والقضائي.
الموازنة في قراءتها الأولى، والتي تحتاج إلى ثلاث قراءات داخل الكنيست ليتم تمريرها رسميًا، حصلت على أغلبية طفيفة (59 صوتًا مقابل 57)، وكان ذلك في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أي قبل انسحاب إيتمار بن غفير وعدد من وزراء حزبه من الائتلاف. وبالتالي، فإن عرضها حاليًا للقراءة الثانية أو الثالثة لن يضمن لها الحصول على الأغلبية، التي فقدها حزب الليكود وائتلافه الحاكم بعد موجة الانسحابات الأخيرة احتجاجًا على وقف إطلاق النار في غزة.
ومن هنا كان الحل الوحيد لتمرير الموازنة والحصول على الأغلبية داخل الكنيست ومن ثم إبقاء الحكومة في السلطة وعدم إجراء انتخابات مبكرة، استئناف الحرب مرة أخرى، وبشكل مكثف وعنيف، بما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 19 كانون الثاني/يناير الماضي، وهو ما بدا يلوح في الأفق حاليًا، حيث عودة المنسحبين ومن ثم استعادة الأغلبية وعليه سيتم تمرير الموازنة بأريحية كاملة داخل الكنيست.
رابعًا: تنفيذ وعود ترامب
خلال حملته الانتخابية نهاية العام الماضي، أطلق المرشح الجمهوري، حينها، دونالد ترامب، سلسلة، لا متناهية، من الوعود البراقة التي غازل بها الشارع الأميركي واللوبيات الداخلية، كان من بينها إنهاء الحرب في غزة وإطلاق سراح كافة الأسرى والمحتجزين لدى حماس وفصائل المقاومة، منددًا بإدارة سلفه جو بايدن لتلك المعركة.
ومنذ تسلمه السلطة في كانون الثاني/يناير الماضي، يحاول ترامب تنفيذ هذا الوعد حفاظًا على صورته أمام الرأي العام الأميركي والدولي، وأمام عائلات الأسرى، لكن من دون تحقيق أي نتائج ملموسة على الأرض. فما تم من عمليات إطلاق سراح للأسرى جاء ضمن صفقات تبادل، وليس عبر القوة كما كان يتخيل أنصاره والمقربون منه، خصوصًا في أوساط اليمين المتطرف داخل إسرائيل.
ومن هنا طرقت إدارة ترامب أكثر من باب لتحقيق هذا الوعد، تارة بالتهديد والوعيد بالجحيم وهو ما لم يؤت أكله مع المقاومة التي تمسكت بموقفها، ما دفعه لابتلاع تلك التهديدات سريعًا، وأخرى بإشعال كرة النار في ملعب الوسطاء من خلال مقترح التهجير لدفعهم لممارسة أقصى مستوى من الضغط على حماس لتقديم تنازلات، وهو ما أجهضه الرفض العربي والتنديد الإقليمي والدولي بمثل هذا المقترح العنصري.
ثم عاود ليطرق بابًا أخر، لكن هذه المرة كان باب الدبلوماسية والجلوس ولأول مرة بشكل مباشر أمام قادة حماس وجهًا لوجه في الدوحة، آملًا في حسم المعركة بمعزل عن الكيان المحتل الذي اعتاد عرقلة أي مسارات للتفاوض ويجهض كافة جهود التهدئة، وهي الخطوة التي أثارت حفيظة نتنياهو وجنرالاته ونخبته السياسية، لكن هذه المحاولة باءت هي الأخرى بالفشل بعدما افتضح أمر المخطط الرامي إلى تجريد المقاومة من سلاح الأسرى دون الدخول في المرحلة الثانية من الاتفاق، وهي الأهم بالنسبة للمقاومة.
وبعد فشل كل تلك المحاولات لم يجد ترامب أمامه سوى الانصياع للرؤية الإسرائيلية الرامية إلى إشعال الموقف مرة أخرى، واستخدام القوة العسكرية المفرطة كسلاح ضغط عنيف ضد حماس وفصائل المقاومة، وبالتوازي مع ذلك تكثيف الجهود الدبلوماسية مع الوسطاء للخروج من هذا المأزق والبحث عن مقترحات جديدة تلبي طموحات واشنطن وتل أبيب معًا، وتدفع الحركة لتقديم تنازلات إضافية على طاولة المفاوضات.
خامسًا: تكريس مخطط التهجير
يستند مقترح ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة على فرضية أن القطاع ما عاد مؤهلًا للحياة، وأن سبل البقاء فيه باتت معدومة أو على الأقل ضئيلة، وعليه لابد من إخراج سكانه لدول أخرى مجاورة (مصر والأردن بداية الأمر، ثم الحديث لاحقًا عن السودان وجمهورية أرض الصومال) ومنح الفرصة أمام جرافات الإعمار لتحويل القطاع إلى "ريفيرا الشرق الأوسط" على حد وصفه.
وبعد فشل كل تلك المحاولات لم يجد ترامب أمامه سوى الانصياع للرؤية الإسرائيلية الرامية إلى إشعال الموقف مرة أخرى، واستخدام القوة العسكرية المفرطة كسلاح ضغط عنيف ضد حماس وفصائل المقاومة
غير أن تلك الفرضية فندها المقترح العربي المصري المقدم، الذي رغم التحفظات الكثيرة بشأن بعض بنوده، لكنه شدد على ضرورة إبقاء الغزيين داخل القطاع، ورفض تهجيرهم، قسريًا كان أو طواعية، مستندًا إلى بعض الدراسات الفنية التي تؤكد إمكانية الإعمار مع بقاء الفلسطينيين، وفق خطة مدروسة بعناية للقيام بهذا الأمر.
ومن ثم كان لابد من نسف تلك الفرضية التي بنى عليها العرب مقترحهم، والقضاء على ما تبقى من مقومات الحياة في القطاع، وتحويله بشكل عملي إلى أرض محروقة، لا مكان فيها للعيش ولا للبقاء، بما يفسد أي خطط مستقبلية للإعمار تستند على بقاء الفلسطينيين داخل القطاع، ويرى البعض أن مثل هذا السيناريو كان مخطط له، سواء التزمت حماس بالشروط الأميركية أم لا.
في الأخير، تسير الأوضاع في القطاع إلى حرب بلا أفق، معركة بلا رؤية، فبينما يحاول الاحتلال إنهاك حماس أولًا قبل إجبارها على الجلوس على مائدة المفاوضات، يبقى المشهد مشروطًا ببعض التقديرات التي سيكون لها دورها في حسم تلك الجولة، أولها قدرة المقاومة على إدارة معركة استنزاف طويلة الأمد، مستندة إلى ما حققته خلال فترة الهدنة الماضية من تعافي وإعادة ترتيب أوراقها مرة أخرى، ومدى نجاحها في تيسير ورقة الأسرى حتى أخر رمق، إضافة إلى الضغوط المحتمل أن يمارسها الداخل الإسرائيلي على الحكومة لوقف الحرب، وأخيرًا، الموقف العربي، والذي بات في موقف حرج أخلاقيًا وسياسيًا أمام الشارع العربي، ويأت في المرتبة الأخيرة في قائمة الأوراق المؤثرة على الساحة.