دم ورصاص.. وكيماوي
20 ديسمبر 2024
فرّ هذا المخلوق المسخ الذي يدعى بشار الأسد؛ فرّ تاركًا وراءه كل ما يثبت خياناته وأمراضه النفسية والعقلية، وآخذًا معه "أبديته" ومال وذهب سوريا، ليحل لاجئًا مهانًا، لا يحمل شرف أي لاجئ هرب من قمعه عبر البحر أو بين الغابات.
لم يكن بشار يومًا عزيزًا، ولم يكن سوى جزار يتلذذ بقتل الناس وتعذيبهم، ويضحك ببلاهة وكأنه فاتح عظيم.
ما الذي تركه هذا المختلّ خلفه. تجيب امرأة تحمل بين يديها جمجمة، وتقول: "هذا ما تركوه لنا من أولادنا". وتتذكر أخرى ما شاهدته وهي في السجن: "أدخلوني إلى غرفة، وشاهدت عشرة شباب يافعين تخترقهم الخوازيق وكانوا لا يزالون على قيد الحياة". وتخرج كلمات مخنوقة من شاب: "جلبوا إلى المعتقل طفلًا صغيرًا، وأحرقوه بقاذف اللهب، حتى انسلخ جلده عنه، ثم تركوه في الزنزانة وخرجوا، وبعد يومين مات بين يديّ".
يمكن أن تكتب شهادات مئات آلاف، وربما ملايين الناس، عن هذا الإرث الفظيع الذي خلّفه الأسدان المختلان: الأب والابن.
لا يمكن لأي عقل أن يصدق ما كان يحدث في سوريا. ولكننا – نحن الذين كنا في الداخل- كنا نرى ونسمع شهادات كثير من أقاربنا ومعارفنا الذين كانوا في زنازين تحت الأرض.
كنا نعلم أننا نسير في شوارع مدينة يرتع تحتها أناس يعذَّبون، وندرك ذلك، ندرك أن إخوتنا وأخواتنا وأصدقاءنا وصديقاتنا يعانون أشد أنواع التعذيب
سوريا كانت أكبر مكان مرعب على الأرض. تمتلك مواصفات عيش/ موت فريدة؛ رعب في وجوه الناس وأنت تمر بجانبهم في الشارع، رعب في العيون التي لا تمتلك بريق أمل- عيون جليدية لا حياة فيها- هواء ثقيل تفوح منه رائحة الدماء. نعم، يمكنك أن تشم رائحة الدماء في كل مكان. يمكنك أن ترى الرعب في وجوه بعض رفاقك بعد خروجهم من المعتقلات، وحين تسألهم عن فترة اعتقالهم، كانوا يقولون ببساطة: "شيء مرعب، لا يمكن لأحد أن يصدق ماذا يجري في السجون".
كنا نعلم كل شيء، ولا يمكننا أن نتفوه بكلمة؛ فقط يمكننا أن نراقب وجوهنا في المرآة ونحزن ونبكي، بصمت، وصمت، وصمت.
كنا نعلم أننا نسير في شوارع مدينة يرتع تحتها أناس يعذَّبون، وندرك ذلك، ندرك أن إخوتنا وأخواتنا وأصدقاءنا وصديقاتنا يعانون أشد أنواع التعذيب، ومنهم من يرحل بعد جولة أو اثنتين من أشد وأبشع ما يمكن أن يتعرض له إنسان من ألم.
بلد فريد في فن التعذيب؛ فالتعذيب فن ومتعة، وقتل لأي أمل يمكن أن يظهر على وجه أحد.
تعذيب الآخرين هو رسالة إليك. يجعلونك تسمع الأنين الخافت يتسلل من شقوق الأرض. ولكنك شبه حيّ وخائف، أكثر من الذين يطلبون الموت وهم يُسلخون ويُطعنون ويُشوون. وبينما تعبر الشارع وتشعر بأنك بالكاد على قيد الحياة، تنزلق قدمك في سرداب صغير، وتجد نفسك في مسلخ تحت الأرض بعشرات الأمتار.
طاغيان لم يفعلا شيئًا سوى إشادة قبور للناس قبل أن يولدوا. ولكنها ليست قبورًا عادية؛ إنها قبور يصعب الوصول إليها. فعلى مدى أربعة وخمسين عامًا، لم يجرؤ شخص على مراجعة مقر أمني ليسأل عن ابنه الذي خرج من الجامعة ولم يعد إلى البيت. ثم يرسلون إليه بطاقة هويته، ولا يسلمون له الجثة، لأنهم يعدمون السجين داخل مكبس ضخم فتسيل دماؤه ودماء المعذبين في نفس اليوم، وتجري في نهر يسقي أشجار المناطق المحيطة بالسجن.
هل هناك من قهر أكبر من أن يشرب الأهل دماء أبنائهم؟
تورق الأشجار وتحمل ثمارًا طعمها دم.
في الهواء رائحة غريبة، فكل من لم يمت في السجون العميقة تحت الأرض، يجب أن يموت بالمواد السامة. إنها مواد كيميائية ليست محرمة على السفاح الذي يقتل شعبه بمباركة دولية، تحت يافطات كبيرة: الإدانة، التحقيق، وبيانات المنظمات الدولية.
مجرد يافطات بلهاء، تؤيد إلقاء الكيماوي على المدنيين؛ يافطات إدانة فقط؛ مجرد رسائل تطمين ليتابع القتل. ثم تتبعها بيانات تهديد بلهاء. ومزيد من القتل والدم والرصاص والكيماوي.
دم يسيل في الساحات، رصاص يصم الآذان، وكيماوي يملأ أنوف كل السوريين.
مدينتي هذه، هي كل المدن في سوريا، تلك المدن التي أمعن نظام السلخ والترهيب في قتل أرواح أهلها، وحولهم إلى أشباح. مدن صرفت عصابة تحكم بلدًا معظم ميزانيتها لبناء السجون والمعتقلات والفروع الأمنية ومراقبة الناس: كيف يسيرون في الشوارع، وكيف يذهبون إلى الصلاة، وماذا يقولون على الهاتف. الكل مستهدف، من دون أن يُستثنى الخادم الأمين الذي يلعق أحذية زعيم العصابة.
عندما انطلقت الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011، كان كل شيء جاهزًا: السجون والرجال العنيفون والسلاح الذي أوهموا الناس أنه من أجل قتال العدو. إضافة إلى ضوء أخضر من الدول الحليفة وميليشياتها الحاقدة والقاتلة، والتي لا تعرف سوى القتل والتعذيب.
لقد فرّ بشار الأسد، تاركًا وراءه وثائق هائلة في أراشيف مخابراته، وكلها تدل على أنه – وكوالده تمامًا- كان خائنًا لوطنه، وعميلًا، وكائنًا مسخًا ومضطربًا عقليًا، وغير قادر حتى على إقناع زوجته الدموية مثله، بأن العيش معه أمر يمكن تحمّله.