طلاب الآثار في لبنان.. بين السرديات الدينية والعلمية حول نشأة الإنسان
31 يمشي 2020
في أغلب الجامعات، يهتم دارسو علم الآثار بنشأة الحضارة الإنسانية أو مادة ما قبل التاريخ. وفي حين أن الطالب الجامعي يأتي غالبًا، وقد تبنى سردية ما مسبقة عن نشأة الحياة، قد تكون دينية، يجد أثناء دراسته أن هناك مقولات علمية تعارض أحيانًا النظرية الدينية لنشأة الإنسان، ما يدخله في صراع بين إيمانه وبين تلك المقولات التي يدرسها.
في حين أن الطالب الجامعي يأتي غالبًا، وقد تبنى سردية ما مسبقة عن نشأة الحياة، قد تكون دينية، يجد أثناء دراسته أن هناك مقولات علمية تعارض أحيانًا النظرية الدينية لنشأة الإنسان
إن تأريخ الحقبة الزمنية بأنها "ما قبل التاريخ" أتى على أساس أنها حقبة ما قبل الكتابة، وهي عصور غامضة وصعبة على الباحثين ويعتمدون على قراءتها من خلال المكتشفات كالأدوات الصوانية والفخار والهياكل العظمية والأصداف وغيرها. وأقدم آثار لإنسان ما قبل التاريخ اُكتشفت في أفريقيا حيث وجد الإنسان الأول.
اقرأ/ي أيضًا: غياب الخدمات في الجامعة اللبنانية يشعل حراك الطلبة
وبحسب بعض نظريات علم الآثار، التي تعتمد على أدلة ومكتشفات أحفورية، فإن البشرية قد مرت بعصور تراتبية بدأت بالعصر الحجري قبل 3.3 ملايين سنة، ومن ثم العصر الحجري الوسيط وامتد حوالي 15 ألف سنة، وتبعه العصر الحجري الحديث الذي انتهى بحلول عام 5500 قبل الميلاد، وأخيرًا العصر الحجري النحاسي وامتد من 5500 سنة وحتى 3500 قبل الميلاد.
إذًا مرت البشرية حسب السردية العلمية الأساسية، بعصور متلاحقة وبمراحل انتقالية بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية القديمة ونهاية العصور الحجرية وبداية حقبة التاريخ المكتوب. وخلال المراحل الانتقالية خرج الإنسان من الكهف إلى الصيد، واكتشف النار والحديد وحدث ذوبان جليدي وساد المناخ الدافئ، واستقر وظهرت الزراعة والتدجين، ومن ثم بدأ الإنسان في العمارة والصناعة وظهرت الفنون والمعتقدات، واكتشف النحاس والحديد والمعادن.
هذا التسلسل الزمني وفق حقبات تاريخية قد يشكل معضلة أمام من يؤمنون بقصة الخلق في الديانات الإبراهيمية. فكيف يوفق طلاب الجامعات في لبنان ما بين معتقداتهم الإيمانية وبين الدلائل والبراهين العلمية المستخرجة حول آثار ما قبل التاريخ؟ وهل يرون أن علم الآثار يتعارض مع النظريات الدينية التي يؤمنون بها؟
نظريات متعارضة؟
تقول هبة عاصي الباحثة في عصور ما قبل التاريخ في سوريا وتعمل على تحضير رسالة دكتوراه في هذا الشأن، إنه "في أغلب الجامعات يدرس هذا الاختصاص فيما يعرف ببداية الحضارة الإنسانية أو مادة ما قبل التاريخ. وأغلب الجامعات تتبنى نظرية التطور".
وتضيف في حديث لـ"ألترا صوت": "بخصوص الطالب الجامعي فإن لديه فكرة مسبقة عن نشأة الحياة ومصدرها الدين، وأثناء دراسته يجد أن هناك علمًا ينسف هذه النظرية الدينية لنشأة الإنسان مما يدخله في صراع بين إيماناته وبين النظرية العلمية حول تطور الإنسان". وتعتبر أنهما نظريتان متصارعتان متعارضتان تحملان بذور التناقض ومن الصعب تقريبهما من بعضهما البعض.
وبرأي هبة عاصي، فإن "النظرية الأولى الإيمانية تعد تطمينية بالنسبة للطالب بينما الثانية تتحدث عن أرض عمرها ملايين السنين والإنسان نشأ وتطور فيها، إلى أن أصبحنا بشكلنا الحالي، لذلك فهي عسيرة على الفهم والتصور".
وترى أن النتيجة تعتمد على كل طالب وبيئته وقدرته على تقبل هذه الأفكار، وإن كان يميل إلى خيار ما لأنه يريحه نفسيًا، خصوصًا، كما تقول، أن مقترحات هذا العلم صعبة التقبل من الناحية المنطقية والفكرية والعاطفية، لأنها بعيدة المدى وتتضمن فترات زمنية ضخمة، يقف الفكر أمامها حائرًا وتعتبر مثيرة للاستغراب بالنسبة للطلاب المبتدئين.
وتشير عاصي أنه "بعد عدة قراءات يبدأ الطلاب بالاقتناع فعلًا أن هذا علم حقيقي قائم على الأدلة ويلجأون إلى تخيل هذا الإنسان البدائي ويبحثون عنه وعن حياته أكثر فأكثر. وترافق عملية التخيل قراءات لنظريات نشوء الإنسان تدريجيًا، حتى يتم فهم واستيعاب السياق الزمني الممتد لملايين السنين من عمر البشرية".
وتذكر قائلة أن فكرة تخيل وجود عصر جليدي، كان فيه يسكن الإنسان داخل الكهوف ثم أتى عصر ذاب فيه الجليد، مرورًا بعصور اكتشاف النار والزراعة والتدجين والمعادن إلى ما هنالك من مراحل حاسمة في التطور البشري والحضاري، يمكن أن تعد ضربًا من الخيال والوهم بالنسبة للبعض.
بين العلم والدين
أما الدكتورة مايا حيدر البستاني، فتقول في حديثها لـ"ألترا صوت": "يتعجب الطلاب من مدى الفترات الطويلة التي وجد خلالها الإنسان على الأرض، مع أن وجود الحياة البشرية يعتبر قصيرًا مقارنة بحياة مخلوقات أخرى".
وتضيف الباحثة المتخصصة بعصور ما قبل التاريخ، ومديرة المتحف اللبناني في جامعة القديس يوسف في بيروت: "لم يصل هذا التعجب من قبل الطلاب إلى مستوى الرفض ومعارضة النظريات، وفي النهاية فإن التدريس يتم وفقًا لمواد ملموسة وتستند إلى أمور علمية حسية، وهناك العديد من العلوم تدخل في هذه الدراسات، ويتلقى الطلاب نظريات لها أسس علمية، وتستخدم تقنيات متطورة سواء طبية أم غيرها لدراسة هذه العظام واللقى والمكتشفات المتعددة".
وتذكر أن "هناك عدة نظريات تفسيرية للتطور، ومن المؤكد أننا كبشر لن نبقى هكذا. سوف نتغير أكثر فأكثر بسبب كل الأمراض وتبدلات المناخ والبيئة، وعلى سبيل المثال هناك دراسات تقول بأن بعض الشعوب الآسيوية يزداد طول قامتهم باضطراد بفعل تغير العوامل البيئية والغذائية".
تشرح البستاني: "هناك فرق بين ما تقوله الكتب السماوية وما يقوله علم عصور ما قبل التاريخ. على سبيل المثال عند المسيحيين، فإنهم يقولون بأن الأرض خلقت في ستة أيام أو سبعة ويتحدثون عن آدم وحواء، وبرأيي هذه صورة جميلة سهلة على الفهم، لكن ربما هذه الأيام الستة أو السبعة تعادل الستة أو سبعة ملايين سنة الحقيقية على أرض الواقع، وربما أعطت الأديان صور مبسطة للعقل البشري ليستوعب هذا الزمن السحيق. وليس بالضرورة أن يتعارض هذا مع ذاك".
وتشرح عاصي: "تخبرنا مكتشفات عصور ما قبل التاريخ عن حقيقة الإنسان، فكانوا يقولون إن الإنسان شخص متوحش يأكل لحوم البشر، ولكن من خلال المكتشفات يتبين أنه كائن حضاري، حيث تم اكتشاف أن الميت كان يدفن بطريقة متقنة، وأحيانًا يتم وضع صوانة تحت رأسه كي يرتاح ويوضع معه مرفقات جنائزية لتساعده في الحياة الثانية".
أما الباحث بالمركز الفرنسي في لبنان IFBO والمختص في آثار وحفريات الحقبة الرومانية، الدكتور جورج الهيبي، فيقول في حديثه لـ"ألترا صوت": "تستند النتائج إلى دراسات علمية وأبحاث ومقارنات عديدة، وتم تجميع المعلومات التي أعطت تصورًا حول تطور الإنسان عبر التاريخ وطريقة عيشه".
اقرأ/ي أيضًا: حزب الله يجتاح كلية العلوم في الجامعة اللبنانية
يضيف أن "الدراسات العلمية هي ذات مصداقية وليست من نسج الخيال". وبرأيه، فإن كل محاضر يقوم بتدريس المادة بطريقته لكن لا يجب أن يقحم أيديولوجيته في التدريس، مشددًا على أن الطالب لا يتعلم النتائج فقط، ولكن يتم تعليمه طرق تحليل المعلومات وفق المنهجية المتبعة في علم الآثار.
علم الآثار هو علم إنساني ولذلك يوجد العديد من النظريات المتعارضة، وهذا لا يعني أن هناك صواب وخطأ، ولكن هناك وجهات نظر مختلفة
ويشير الهيبي إلى أن علم الآثار هو علم إنساني ولذلك يوجد العديد من النظريات المتعارضة، وهذا لا يعني أن هناك صواب وخطأ، ولكن هناك وجهات نظر مختلفة. ويبين أنه "بالنسبة لي فإن الإنسان قد تطور وأتبنى نظرية التطور، وأما بخصوص معتقداتي فهناك فصل بين الأمرين، وأميل إلى أخذ المغزى والعبرة من الدين بشكل رمزي وليس بحذافيره".
اقرأ/ي أيضًا:
"بلطجة" حزب الله في الجامعة اللبنانية.. لا لفيروز
الجامعة اللبنانية.. من صرحٍ تعليمي لمركز تعبوي