عزمي بشارة: سوريا الجديدة يجب أن تُبنى على الحقوق والحريات والمساواة
23 ديسمبر 2024
اعتبر المفكر العربي عزمي بشارة أن سقوط نظام بشار الأسد جاء نتيجة مخاض طويل بدأ منذ عام 2015، وتراكمت فيه عوامل عديدة أبرزها تعفّن وترهّل بنية النظام، والعقوبات الاقتصادية القاتلة التي أدت إلى تفشي الفساد بين الضباط، والجوع بين الجنود، بسبب رواتبهم الزهيدة، بإلاضافة إلى الموت البطيء للدولة الذي بدأ منذ عام 2015، حين كان النظام على وشك السقوط قبل أن تتدخل روسيا لإنقاذه.
وقال بشارة، خلال مقابلة أجراها معه "تلفزيون سوريا"، مساء أمس الأحد، بأن الضربة التي تلقاها ما يُعرف بـ"محور المقاومة" خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، إلى جانب انسحاب "حزب الله" من سوريا بفعل الحرب نفسها، كانت من العوامل التي ساهمت في هذا الانهيار السريع للنظام. لكن العامل الحاسم برأيه تمثّل في: "وجود طرف منظم منضبط يعمل ويحضِّر ويخطط ويستغل الفرصة، وهو هيئة تحرير الشام، أو ما سُمّي لاحقًا قيادة العمليات العسكرية".
وأشار إلى أنه لولا هذا "العامل الجوهري"، وفق وصفه، لكان النظام قادرًا على الاستمرار وإن ميتًا رغم العوامل السابقة. كما رأى بأن عملية "ردع العدوان" بدأت ربما بأهداف محدودة، لكنها تطورات نتيجة الانهيار السريع لقوات النظام، وكذلك قرارات إدارة العمليات العسكرية السريعة والجريئة والمستقلة تمامًا، مشددًا على أنه لم يكن هناك أي تدخل خارجي، بل إن الأمر كان مفاجئًا للجميع وفق قوله.
شدد بشارة على أن تحقيق الانتقال الديمقراطي يتطلب إجماعًا على كيان الدولة ومؤسساتها، ووعي الناس بضرورة الفصل بين كيان الدولة ونظام الحكم
وأوضح أن الولايات المتحدة لم تلعب دورًا كبيرًا فيما جرى، مشيرًا إلى تدخل روسيا لدعم نظام الأسد ومنع انهياره عام 2015 تم بالتنسيق معها، بهدف ضبط الأوضاع في ظل قتال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" لأنها لم تكن تثق بفصائل المعارضة المسلحة، وكانت تخشى، برفقة إسرائيل، من الفوضى.
ولذلك كان الاتفاق بينهما على إبقاء النظام ضعيفًا تحت وصاية موسكو، التي ساعدت النظام على استعادة معظم المناطق التي خسرها من خلال الدعم الجوي الكبير، والذي لم يعد متوفرًا بعد الحرب في أوكرانيا، حيث اعتبر بشارة أن الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا تفوق بكثير أهمية سوريا بالنسبة للروس.
وأضاف بشارة أن تراجع الدعم الروسي لنظام الأسد لم يكن مفاجئًا بالنسبة له، وإنما بالنسبة لمن يعتقدون أن روسيا: "جزء من محور الممانعة، وأنها دولة معادية للاستعمار، وهذا وهم". أما بشأن ما جرى تداوله عن وجود تفاهمات روسية - تركية بخصوص ما حدث، فقد نفى أي يكون هناك أي تنسيق بين الطرفين لإسقاط النظام، مشيرًا إلى أنهما كانا متفاجئين بما جرى.
أحمد الشرع وحكّام سوريا الجُدد
وفي سياق الحديث عن "هيئة تحرير الشام"، وقائدها أحمد الشرع، أوضح مدير عام "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" أن فكرة السلطة ليست بعيدة عنهم نظرًا إلى المحطات البارزة في مسيرة الشرع: رفضه الاندماج في تنظيم "داعش" وإصراره على استقلالية "جبهة النصرة"، وتجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، عدا عن غياب أي حديث عن الانتقال الديمقراطي.
واعتبر بشارة أن التحول في سلوك وخطاب الهيئة والشرع، ليس نتاج مراجعات فكرية وإنما تحول تدريجي ناتج عن الإمساك بالسلطة في إدلب وإدارة السكان، وكذلك البراغماتية السياسية التي تدفع نحو طلب اعتراف المجتمع الدولي ومسايرة فئات الشعب السوري. أي أنه ليس تحول فكري أدى إلى براغماتية سياسية، وإنما براغماتية سياسية تؤدي إلى تغيير في السلوكيات.
ولذلك يبدو المشهد وكأنه توجه نحو الإمساك بالسلطة لكن بتواضع وذكاء مع تقديم تطمينات، وأنه قد يكون محاولة لاستلام مفاتيح ومواقع الحكم. لكنه شدد في الوقت نفسه على أن كل ما يُطرح الآن تأويلات، مؤكدًا أن الأيام وحدها ستثبت ما إذا كانت هذه مرحلة انتقالية، أم أنها غير ذلك.
الانتقال الديمقراطي في سوريا ومعوقاته
أما فيما يتعلق بالانتقال الديمقراطي، فقد أكد عزمي بشارة أن المسألة ليست سهلة، وهذا ما أثبتته التجارب العربية المريرة، حيث لم يكن هناك دولة قوية ومتينة لا تتفكك نتيجة للتعددية. كما شدد على أن تحقيق الانتقال الديمقراطي يتطلب إجماعًا على كيان الدولة ومؤسساتها، ووعي الناس بضرورة الفصل بين كيان الدولة ونظام الحكم، الذي يجب أن يكون قابلًا للتغيير، بينما تبقى الدولة ثابتة ومستقرة.
إضافةً إلى ما سبق، يجب أن يكون هناك توافق بين القوى الرئيسية في المجتمع على مسألة تداول السلطة سلميًا ودوريًا عبر الانتخابات، والاتفاق على أن الانتخابات هي الوسيلة لحل الخصومات، التي أكد أن إنجاح العملية الديمقراطية يجب أن تتجاوزها. وذلك عدا عن إدراك أن الديمقراطية ليست قضية حكم وانتخابات، بل هي في جوهرها قيم تتمحور بشكل أساسي حول حقوق المواطن وحرياته، ويجب أن تُرسى في دستور ثابت لا يتغير مهما تغيّرت أنظمة الحكم وهوية الحكّام. لكنه أكد بأن ما سبق عملية معقدة.
أكد بشارة أن الشعب السوري يظل في جوهره وطنيًا متمسكًا بوطنيته وغير طائفي، وليست لديه ضغائن تجاه أي مجموعة سكانية
ولتحقيق كل ما سبق، وإدارة حوار وطني، يجب الاهتمام بعملية بناء الاقتصاد والأمن. وهنا شدد بشارة على أهمية التفكير بمنطق "الشعب السوري" بتنوع دياناته وثقافاته، وليس بمنطق الملل والأقليات الذي لا يقود إلى ديمقراطية. وتكتسب هذه المسألة أهمية متزايدة في ظل وجود أطراف تفكر فعليًا في تقسيم سوريا، مثل إسرائيل.
وأكد بشارة إنه إذا أُزيحت الضغائن الناجمة عن ممارسات النظام السابق، وطبيعة المعارضة التي تولّدت ضده، فإن الشعب السوري يظل في جوهره وطنيًا متمسكًا بوطنيته وغير طائفي، وليست لديه ضغائن تجاه أي مجموعة سكانية بأكملها. وأوضح أن إمكانية عقد حوار وطني في مرحلة انتقالية، تتطلب وجود إجماع على ضرورة بناء مؤسسات الدولة، وخاصةً الأمن والاقتصاد.
وأبدى صاحب "سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن"، استغرابه من تصرفات قيادات جيش النظام السابق التي أصدرت أوامرها لجنودها بالعودة إلى منازلهم، با وحتى الانسحاب من خطوط الجبهة مع الاحتلال الإسرائيلي في الجولان. ورأى أن هذه العقلية ليست طفيلية فقط، بل معادية لسوريا تتصرف وفق مبدأ أنه إذا لم تكن تحت حكمهم، فلا بأس بانهيار كل شيء. وهذا سلوك يعكس رغبة واضحة في خلق حالة من الفوضى عقب سقوط النظام.
وشدّد بشارة على ضرورة إعادة بناء الجيش اعتمادًا على المجندين أنفسهم، لكن تحت قيادة ضباط جُدد، مثل الضباط المنشقين، وبفكر جديد، مع إشراك جزء من قيادات الفصائل المسلحة. وأشار هنا إلى نقطة مهمة، وهي أن اندماج الفصائل لن يؤدي إلى تشكيل جيش وطني موحد، وإنما مجموعة جيوش لا تخضع لقرار موحد، الأمر الذي يستدعي بناء الجيش على أساس الأفراد وليس الفصائل.
وأكد المفكر العربي أنه في حال عدم تحقيق كل ما سبق من شروط، فإن كل ما يحدث حاليًا لن يتجاوز كونه محاولة للإمساك بالسلطة، ترافقها عمليات إرضاء للأطراف والقوى الأخرى، وهذا لن يؤدي إلى توحيد سوريا أو مواجهة التدخلات الأجنبية. ولذلك: "الضمان الوحيد لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة يكمن في تحقيق الوحدة الوطنية"، وفق قوله.
وفي رده على سؤال بشأن الشروط التي يضعها المجتمع الدولي لإعادة إعمار سوريا، بما يسهم في تحريك عجلة الاقتصاد والمضي قُدمًا في عملية الانتقال الديمقراطي، قال بشارة إن الأمر يتطلب عقد حوار وطني حقيقي، وضمان حماية جميع مكونات الشعب السوري وإثبات ذلك بالممارسة، والالتزام بحقوق المرأة لا أن الغرب يريد ذلك، بل لأن المرأة هي مساوية للرجل في حضارتنا. هذه الخطوات، كما أوضح، تدفع المجتمع الدولي إلى التعامل بشكل جدي مع النظام الجديد في سوريا.
وفي سياق متصل، أكد صاحب كتاب "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة"، أن الحوار الوطني يجب أن تدعو إليه جميع القوى، وليس طرف واحد فقط. وشدد على أهمية وجود هيئة حكم انتقالي تضمن انتقال سوريا من مرحلة إلى أخرى بمشاركة جميع مكونات الشعب السوري. ويجب على هذه الهيئة أن تصدر إعلانًا دستوريًا مؤقتًا يحدد صلاحياتها وخطواتها، ثم تدعو إلى مؤتمر وطني ينتخب لجنة متخصصة لصياغة دستور جديد للبلاد.
وشدّد بشارة هنا على أن: "أي نظام قادم في سوريا، إذا كان يريد أن يستحق تسمية نظام على أنقاض نظام الاستبداد والطغيان الذي ساد في سوريا، يجب أن يحترم الحقوق والحريات والمساواة بين المواطنين"، مؤكدًا أن الشعب السوري في النهاية خرج ضد الاستبداد، رافعًا شعار "حرية للأبد".
واستبعد عزمي بشارة في هذا السياق أن يكون هناك تناقض بين الديمقراطية والإسلام إذا كان المتدينون يفسرون الإسلام على نحو لا يتناقض مع الديمقراطية. أما إذا كان الأمرعكس ذلك، فإن الأمر سيؤدي إلى سلوك صدامي.
العدالة الانتقالية
أشار المفكر العربي في حديثه عن أمر شديد الأهمية في أي مرحلة انتقالية، وهو العدالة الانتقالية، أو مرحلة الحقيقة والعدالة. وأوضح أن هذا الأمر يتطلب قانونًا تشرُعه هيئة خاصة لتنظيم عملية محاسبة مجرمي المرحلة السابقة، معتبرًا أن العدالة الانتقالية تمثل مرحلة طويلة يُعاد فيها كتابة التاريخ من خلال محاكمات علنية لجزء من المتورطين. وهي مرحلة/عملية تُفضي إلى ولادة جديدة للمجتمع السوري، وتؤدي إلى طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة، ولذلك يجب ألا تهمل.
اعتبر بشارة أن التحول في سلوك وخطاب هيئة تحرير الشام ليس نتاج مراجعات فكرية وإنما تحول تدريجي ناتج عن الإمساك بالسلطة في إدلب، والبراغماتية السياسية
أما بشأن احتمالية حدوث انقلاب أو ثورة مضادة، فقد أكد بشارة على ضرورة مخاطبة الحس الوطني لدى أفراد الفصائل الموجودة للانضمام إلى جهد بناء الأمة، وكذلك مخاطبة الدول التي تدعمها والتي لا تستطيع فعل شيء من دونها، على أساس أنه إذا كانت ترغب في بناء علاقات طبيعية مع سوريا، فيجب عليها عدم حماية هذه الفصائل، لافتًا إلى أنه من الضروري الحديث مع هذه الدول بصراحة حول هذه المسألة.
واعتبر بشارة أنه من غرائب النظام السوري أنه لم يترك خلفه دولة عميقة، وهذا أمر مريح وفق وصفه، لأنه يلغي احتمالية حدوث انقلاب على النظام الجديد، خاصةً أنه لم يبقَ هناك فلول حقيقية للنظام. وفي هذا السياق، تحدث بشارة عن إمكانية سحب الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، للقوات الأميركية من سوريا، الأمر الذي يضع "قسد" في مأزق حقيقي قد تستطيع الخروج منه إذا وجدت حليف جديد هو في هذه الحالة إسرائيل، وهو أمر غير مستبعد، ويجب قطع الطريق عليه عبر الحوار والتوافق، خاصةً أن إسرائيل لا تريد سو تقسيم سوريا.
واختتم بشارة حديثه بالتأكيد على أن من يستطيع أن يجمع السوريين حوله عبر وحدة وطنية، يستطيع أن يفرض احترام سيادة سوريا على جميع الأطراف الدولية. مؤكدًا أن أولوية السوريين حاليًا هي بناء الأمن والاقتصاد والوحدة الوطنية في إطار شامل، وهو أمر يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة، وفق قوله.