قراءة في استعراض "هيئة تحرير الشام" العسكري
28 ديسمبر 2024
تتعدى فكرة العرض العسكري الذي نظمته "هيئة تحرير الشام" في وسط العاصمة دمشق محاولة تقديم نفسها على أنها تقود المرحلة الجديدة بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع، بشار الأسد. الفكرة الواضحة من مثل هذه العروض أن الهيئة لا تزال تعمل بمنطق الجماعة التي كانت في يوم من الأيام تتبع لتنظيم القاعدة، وتبتعد أكثر فأكثر عن منطق الدولة التي دفع السوريون ثمنًا باهظًا للوصول إليها، والواقع يقول إنهم سيدفعون المزيد من الأثمان لتحقيقها.
أثار هذا العرض العسكري فعليًا موجة من الانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة أنه كان في العاصمة دمشق، وهو ما يُعتبر ترهيبًا لا احتفاليًا بالانتصار على النظام البائد. ووصف أيضًا بأنه استعراض للقوة، نظرًا لمزامنته مع الحملات الأمنية التي استهدفت مسؤولين وعناصر تشبيحية، جرى خلالها تداول لمقاطع فيديو أظهرت ارتكاب انتهاكات، في وقت يطمح السوريون لإحلال العدالة الانتقالية التي تنشد العدالة للضحايا.
ليس غريبًا القول إن هذا العرض العسكري يؤكد حذر معظم السوريين من الحالة البراغماتية الراديكالية التي طرأت على طريقة تفكير "هيئة تحرير الشام". كان لمقاطع الفيديو المنتشرة خلال الأيام الماضية، والتي عززتها صفحات عشوائية على منصات التواصل الاجتماعي أن أدت إلى موجة من الاحتجاجات التي عمت المدن السورية، وتركّز معظمها في مدن الساحل السوري، قبل أن تبدأ الحملة الأمنية التي استهدفت عناصر ومسؤولي النظام البائد، في مختلف المدن، بما في ذلك العاصمة دمشق.
ليس غريبًا القول إن هذا العرض العسكري يؤكد حذر معظم السوريين من الحالة البراغماتية الراديكالية التي طرأت على طريقة تفكير "هيئة تحرير الشام"
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هل لدى "هيئة تحرير الشام" القدرة على الانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم الدولة؟ في الرأي على استعراض القوة العسكري، أنه كان بعيدًا كل البعد عن مفهوم الجيوش النظامية، وهو أكثر قربًا وتشبهًا بالحالة الميليشياوية. دائمًا ما كانت توجه الانتقادات للحالات التي تشابه حالة استعراض الهيئة قوتها العسكرية في قلب العاصمة، والتي تشير إلى الابتعاد عن مفهوم بناء الدولة الجديدة.
هناك نقطة أخرى لا يمكننا تجاهلها هنا، وترتبط بالعناصر الذين شاركوا في الاستعراض العسكري، أولها وأهمها أنهم كانوا ملثمين، وهو ما يتناقض مع حديث قائد إدارة العمليات العسكرية، ومعها "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع، الذي كرر أن الهيئة ستعمل على حل نفسها، تمهيدًا للاندماج مع المجتمع السوري، لكن تغطية وجوه العناصر حتى الآن تثير التساؤلات حول الأسباب التي تدفعهم إلى مواصلة هذا النهج رغم سقوط نظام الأسد أولًا، وأنهم أصبحوا السلطة الفعلية أو كما يصفهم البعض سلطة أمر الواقع ثانيًا.
أظهرت الهيئة مرونة في تعاطيها مع الانتقادات التي وجهت إليها سابقًا، واليوم مطالبة بالمرونة ذاتها. وهي مطالبة أيضَا بتقديم دلائل وإشارات على ذلك، خاصة أن اليومين الماضيين كانا حافلين بالمظاهرات والاحتجاجات التي حملت بعدًا طائفيًا، وهو أمر يهدد نسيج المجتمع السوري المتنوّع منذ الأزل، والتي جاءت بعد انتقال سلس للسلطة أُشيد به محليًا ودوليًا، لعدم إراقة سيل من الدماء حرص النظام البائد على الترويج لها في سردياته.
وعلى هذا الجانب، لا يجب تجاهل مقاطع الفيديو التي تظهر ارتكاب انتهاكات تعيد للذهن ممارسات النظام البائد، الذي أمعن قتلًا وإذلالًا وترهيبًا بالسوريين، هؤلاء يجب أن يكون الانتقام منهم بتقديمهم إلى المحاكمة لتحقيق العدالة. لم تكن الانتهاكات أو الحالات الثأرية جزءًا من العدالة في يوم من الأيام، وبالتأكيد لا يمكن السكوت عنها لتكون تكريسًا العدالة. فالعدالة الحقيقية تكون بدعوة جميع وسائل الإعلام لتغطية محاكمتهم وفقًا للدستور السوري الجديد. تغطية إدانتهم في المحاكم السوري، حينها فقط يمكننا القول إننا انتصرنا للضحايا من النظام البائد.