1. قول

ليسوا ضيوفًا في عاصمتهم.. ضد خرافة النقاء الدمشقي

26 يمشي 2025
شارع فرعي وسط العاصمة دمشق (الترا صوت)
وائل قيسوائل قيس

دمشق لم تكن يومًا مجرد عاصمة، بل كانت صدرًا واسعًا للعرب، ومسرحًا لحكاياتهم، وملاذًا أخيرًا للهاربين من ضيق الجغرافيا والمعنى. مدينةٌ يُضرَب بها المثل في التاريخ، عرفت كيف تحتضن الحاضر دون أن تنكر ماضيها، فاتحة ذراعيها للغريب دون خوف أو تحفظ. لكن اليوم، تعلو الأصوات التي تصوّر دمشق كأنها مدينة مغلقة، حتى على أبناء البلد الواحد، الذين حرموا منها لأكثر من عقد، وكأن لها جينات خاصة وتركيبة بيولوجية ترفض الاختلاط والاندماج مع الآخرين.

راجت هذه الرؤية مؤخرًا على منصات التواصل الاجتماعي، وجاءت في الغالب من أبناء دمشق أنفسهم، بوهم أنهم أوصياء على هوية سكانها، وكأنها حكرٌ على فئة محددة دون سواها. تُصوَّر المدينة على أنها "نقية"، بهوية حضرية ثابتة لا تقبل التبدّل، وفي ذلك إغفال و/أو تجاهل لما دونه المؤرخون عن أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ. ألم يقل فيها ياقوت الحموي يومًا: "المساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها"!

لكن السؤال، من قال إن دمشق الحقيقية تُقاس بسكانها "الأصليين"؟ إذ إنه على مرّ التاريخ، عرفت دمشق تنوّع اللهجات والأعراق. وما يسمّيه البعض اليوم "الحفاظ على رتابة دمشق"، ليس سوى انعكاس لعوامل تتجاوز الفردانية أو الخصوصية الثقافية. يمثل هذا الخطاب إفراز لحرب طويلة دُمّرت فيها مدن وقرى بأكملها في مختلف الخارطة السورية، بينما كانت دمشق تموت ببطء. صحيح أن دمشق كانت بمنأى نسبي عن القذائف العشوائية خلال السنوات الماضية، لكن تغييرًا خفيًا طرأ عليها، جعلها تبدو مدينة مكسورة في أعين أبنائها السوريين.

تعلو الأصوات التي تصوّر دمشق كأنها مدينة مغلقة، حتى على أبناء البلد الواحد، الذين حرموا منها لأكثر من عقد، وكأن لها جينات خاصة وتركيبة بيولوجية ترفض الاختلاط والاندماج مع الآخرين

يظن البعض أن تدفّق آلاف السوريين إلى دمشق يُراد به تغيير طابعها "الحضاري"، رغم افتقارها للخدمات الأساسية. تناسوا أن هذه المدينة يسكنها الفقراء، واللاجئون، والنازحون، وأبناء الريف، جنبًا إلى جنب مع من يُسمّون أنفسهم "الدمشقيين الأصليين" نسبة إلى . دمشق تُصنع كل يوم من جديد عبر هذا التداخل والتعدد، ومن يرفض هذا التنوع، إنما يرفض المدينة ذاتها.

لا بد من التذكير أن الأزمة الحقيقية لا تكمن في الوافدين، بل في السردية التي يُعاد من خلالها تعريف المدينة. فالمشكلة ليست في من دخل دمشق، بل في الكيفية التي تغيّر بها فهمنا لها. دمشق، لمن يعرفها حقًا، لم تكن يومًا مدينة مغلقة أو نقية بالمعنى العرقي أو الطبقي. كانت دائمًا مدينة هجينة، مركبة بطبيعتها السكانية، وعشوائياتها المتناثرة على الأطراف، قبل أن يحول النظام البائد دمشق نفسها إلى مدينة عشوائيات.

كانت دمشق، عبر تاريخها، مدينة مفتوحة على الجميع، تتحدث لهجات السوريين كافة، وتعيش تعددهم دون أن تضيع ملامحها. لم تكن مدينة تتوجس من الآخر، بل كانت حاضنة العرب بامتياز. استقبلت الوافدين من مختلف الجنسيات والأعراق، لا كغرباء أو ضيوف عابرين، بل كأبناء بيت واحد، يشاركون أهل المدينة مقاعد المقاهي، وطقوس الأسواق، ولغة الشارع اليومية.

دمشق الحقيقية لا تخاف من الاختلاط، لأنها وُلدت منه. وكل سردية تُقصي هذا التنوع، إنما تفصل المدينة عن سياقها التاريخي والإنساني، وتحوّلها إلى كيان جامد بلا نبض. لكن النظام البائد، كما اعتاد، لم يترك شيئًا دون أن يُعيد تشكيله بما يخدم مصلحته. هكذا اختزل نظام الأسد الشعبوي المدينة إلى مجرد أداة ضمن سياسة جغرافية وأمنية واقتصادية، هدفها تفريغ دمشق من ذاكرتها، ومن نخبها، ومن ملامحها الحضرية والثقافية.

دمشق، لمن يعرفها حقًا، لم تكن يومًا مدينة مغلقة أو نقية بالمعنى العرقي أو الطبقي. كانت دائمًا مدينة هجينة، مركبة بطبيعتها السكانية، وعشوائياتها المتناثرة على الأطراف

أعاد توزيع السكان كما تُخلط أوراق اللعب، لا لشيء سوى لضمان سيطرة طويلة الأمد على التركيبة السكانية، وتفكيك أي نسيج يمكن أن يشكّل قوة اجتماعية خارج سلطته. أغمض عينه عن انتشار الأبنية المخالفة، وجعل من العاصمة كتلة إسمنتية مشوهة، يسكنها خليط سكاني هجين، محكوم بالحرمان، يلهث خلف الخبز والسكن والماء والكهرباء، فيما كان الأسد المخلوع يشجع على سياسة "سوريا المتجانسة"، ويطبقها على دمشق كنموذج.

بعد سقوط نظام الأسد، وجدت دمشق نفسها مدينة منهكة، مسحوقة بالذاكرة والانقسام الطبقي والطائفي، بلا مشروع جمعي، وبلا مركز ثقل يُلملم شتاتها. من بقي فيها لا يملك سوى النجاة اليومية، ومن عاد إليها يبحث عن حصة في الركام والذاكرة. في هذا الفراغ الكبير، لا تكفي دعوات التعدد والانفتاح، إن لم تُقرن بمراجعة حقيقية لما حدث: كيف تحولت دمشق من مدينة العرب إلى مدينة الخوف؟ كيف صودرت روحها، وصيغت هويتها بمنطق الولاء والفوقية؟

لذلك، فإن أي حديث عن عدالة سكنية أو مشروع ثقافي بديل، لا يمكن أن يبدأ قبل مساءلة الخراب نفسه: من صنعه؟ ومن تركه يتجذر؟ وهل لا تزال لدينا مدينة يمكن أن نعيد بناءها، لا بالحجارة، بل بالثقة والانتماء؟ دمشق لا تحتاج فقط إلى ترميم، بل إلى اعتراف، ومساءلة، وجرأة في قول الحقيقة: إنها مدينة محطمة. ولعلّ في الاعتراف بداية الاحتمال.

دمشق، في نهاية المطاف، إما أن تكون مدينة الجميع، أو لا تكون.

كلمات مفتاحية

بين مرايا الدم وأقلام الحياد.. خيانة المثقف العربي لقضاياه

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، بل غدت اختبارًا أخلاقيًا للإنسانية، ومرآة تعكس نفاق المجتمع الدولي وعجزه عن وقف المجازر المرتكبة على مرأى ومسمع من العالم.

رغم الخسائر والضغوط.. لماذا تتجنب مصر استهداف اليمن عسكريًا؟

تمثل العلاقات المصرية اليمنية حالة استثنائية شديدة التمايز والخصوصية، إذ يربط البلدين قائمة مطولة من القواسم المشتركة، المتنوعة بين الثقافي والسياسي والجغرافي

بعد نصف قرن... هل غادر لبنان "بوسطة الموت"؟

عشية الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان متحف "نابو"، في شمال لبنان، يجهّز مساحة في حديقته تتعدّى الزمان والمكان، خصّصها لحفظ بوسطة عين الرمانة، أو "بوسطة الموت"، كي "تكون الحرب عبرة وتحفيزًا لكتابة تاريخ حرب لبنان"

TEST TEST TEST

test test final

image

test 3

سياق متصل

وقف إطلاق النار في لبنان يهتزّ... الجيش اللبناني يلتزم بالـ"ميكانيزم" وقلق من تسخين جديد للجبهة