ما وراء الشال.. أحمد الشرع وصور النساء
19 ديسمبر 2024
في عالم السياسة، تتجاوز الصور كونها مجرد لحظات عابرة، لتصبح رسائل مدروسة تحمل أبعادًا أيديولوجية واجتماعية وسياسية. هذا ما بدا واضحًا في الظهور الأخير لأحمد الشرع، قائد إدارة العمليات العسكرية، وهيئة تحرير الشام سابقًا، إلى جانب مجموعة من الفتيات غير المحجبات في سوريا، مع طلبه منهن وضع شال على رؤوسهن إن أردن التقاط صورة معه. يثير هذا المشهد، رغم بساطته الظاهرية، أسئلة متعددة حول طبيعة الرسائل التي أراد الشرع إيصالها من خلاله، خاصة في ظل محاولاته المستمرة لإعادة رسم صورة الهيئة وتقديمها كقوة أكثر اعتدالًا على الساحة السورية.
بدايةً، يمكن النظر إلى هذا الظهور كجزء من استراتيجية أكبر تسعى الهيئة من خلالها إلى التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في سوريا. فمن خلال ظهور الشرع مع فتيات غير محجبات، يبدو أن الهيئة تحاول تقديم نفسها كجهة منفتحة وقادرة على التعايش مع مختلف أطياف المجتمع السوري، بما في ذلك الأقليات والفئات التي لا تتفق بالضرورة مع توجهاتها الأيديولوجية. يحمل هذا التوجه في طياته محاولة واضحة لتقديم تطمينات للمجتمع المحلي، وأيضًا للمجتمع الدولي الذي ينظر بحذر إلى القوى المسلحة ذات الخلفيات المتشددة.
لكن خلف هذا المظهر المنفتح، يكمن إصرار الشرع على وضع الشال/ الحجاب، وهو تفصيل صغير لكنه بالغ الأهمية. هذا الشرط، الذي يبدو وكأنه مجرد التزام بمظهر معين، يحمل دلالات أعمق تتعلق بفكرة الامتثال. فطلب تغطية الرأس هنا ليس مجرد رمز ديني، بل هو تعبير عن الهيمنة وفرض السيطرة. إذ يبدو أن الشرع، رغم محاولاته للتكيف مع الواقع، لا يزال غير قادر على تجاوز موروثه الأيديولوجي الذي يفرض قيودًا صارمة على الأفراد، وخاصة النساء، حتى في أكثر اللحظات التي يُراد لها أن تعكس انفتاحًا.
على الرغم من تضحيات السوريات الكبيرة وقدرتهن على حمل أعباء الحياة اليومية وسط النزاعات والانهيار الاقتصادي، ظل تمثيلهن في العملية السياسية متواضعًا
يمكن قراءة هذا التصرّف كرسالة مزدوجة: فمن جهة، يريد الشرع أن يظهر بمظهر القائد البراغماتي الذي يتعامل مع الجميع، بما في ذلك النساء غير المحجبات، ومن جهة أخرى، يصرّ على أن هذا التعامل لا يمكن أن يكون بلا شروط. الشال هنا يصبح أداة لإخضاع الآخر لقواعد الهيئة، حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ومن أجل التقاط صورة. يعكس هذا الإصرار، بشكل أو بآخر، فشلًا في تقديم صورة حقيقية للتغيير أو الانفتاح، حيث لا يزال الانتماء إلى فضاء الهيئة مشروطًا بالتخلي عن جزء من الهوية الفردية والامتثال لمعاييرها.
في السياق السوري الأوسع، تحمل هذه الصورة دلالات تتعلق بمحاولات القوى المختلفة السيطرة على الفضاء العام وفرض قواعدها على الأفراد، حتى في أبسط التفاصيل. في الشرع وقيادته، يمكن القول إن محاولة التكيف مع الواقع السياسي والاجتماعي الجديد لا تزال محكومة بتصور أحادي يرفض الاعتراف بالتنوع الحقيقي ويفرض معايير محددة على الجميع. هذه المقاربة تجعل من الصعب تصديق أي محاولات للانفتاح أو التغيير، حيث تظهر الهيئة وكأنها تحاول فقط تغليف ممارساتها القديمة بمظهر جديد، دون التخلي عن جوهرها الحقيقي.
ورغم الرسائل المبطنة التي يمكن أن تحملها الصورة عن قبول الهيئة للمرأة غير المحجبة، فإن الإصرار على وضع الشال يقوّض هذه الرسائل ويكشف حدود التغيير الذي يمكن أن تصل إليه الهيئة. فالتغطية هنا ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي رسالة واضحة بأن القبول مشروط، وأن التعايش مع الهيئة يعني التخلي عن جزء من الحرية الشخصية والركون لسلطتها، حتى ولو كان ذلك بشكل رمزي ومؤقت.
من جهة أخرى نرى أن التشكيلة الحكومية المؤقتة استبعدت النساء من المناصب القيادية بشكل ملحوظ، وأثار هذا الاستبعاد استياء الأوساط الحقوقية والنسائية التي كانت تأمل في تحسن الوضع بعد سنوات من التهميش الممنهج في عهد نظام الأسد. تجددت الخيبات بعد الإعلان عن التشكيلة الجديدة، التي كرّست نمطية الإقصاء وغياب التوازن الجندري في هياكل السلطة وبدا مشهد الإعلان الرسمي متجهمًا، حيث خلت القاعة من أي وجوه نسائية ذات ثقل سياسي، مما أثار تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في تحقيق إصلاحات جذرية.
عبرّ حقوقيون عن قلقهم إزاء وضع النساء اللاتي، وطالبوا بالشفافية في طرح دور المرأة، وتطبيق سياسات شاملة تنصف المرأة وتضمن حضورها في المشهد العام لكن هذ الدعوات بدت وكأنها صرخات في وادٍ، حيث قوبلت بتجاهل رسمي واضح.
إن استمرار هذا التهميش، سواء في صورة القيادة السياسية أو في الفضاء العام الذي تسيطر عليه القوى الجديدة، يعكس عمق التحديات التي تواجهها المرأة السورية في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة. فإقصاء النساء من مواقع السلطة واتخاذ القرار ليس مجرد إشكالية عابرة، بل هو جزء من سياق أوسع يعكس تهميشًا ممنهجًا لدور المرأة في إعادة بناء سوريا الجديدة.
في ظل الحرب وتداعياتها، كانت النساء السوريات في مقدمة المتضررين، سواء من ناحية الأمان الشخصي أو الاجتماعي والاقتصادي. وعلى الرغم من تضحياتهن الكبيرة وقدرتهن على حمل أعباء الحياة اليومية وسط النزاعات والانهيار الاقتصادي، ظل تمثيلهن في العملية السياسية متواضعًا، بل ومعدومًا في كثير من الأحيان. يبعث هذا الإقصاء برسائل متناقضة: فمن جهة، يتم الاعتراف بالدور الأساسي للنساء كدعامة للمجتمع في أوقات الأزمات، ومن جهة أخرى، يتم إنكار حقهن في التمثيل والمشاركة في صنع القرار.
إن الإصرار على تغييب المرأة عن المشهد السياسي وخاصة على خلفية التصريحات الأخيرة لـ عبيدة أرناؤوط، المتحدث الرسمي باسم الإدارة السياسية التابعة لإدارة العمليات العسكرية، بتحجيم المرأة وإقصارها على أدوار معينة، يضع العديد من علامات الاستفهام حول جدية القوى في تقديم مشروع وطني شامل يعكس تطلعات جميع فئات المجتمع السوري. فمن دون إدماج حقيقي للنساء، يصعب الحديث عن أي إصلاح حقيقي أو إعادة بناء شاملة تضمن العدالة والمساواة للجميع. هذا الاستبعاد لا يؤثر فقط على النساء، بل يُضعف البنية السياسية والاجتماعية ككل، حيث يفقد المجتمع فرصته في الاستفادة من خبرات نصفه الآخر.
يُجسّد التهميش البنيوي للنساء والقيود الرمزية، كما في مشهد "الشال"، عمق الأزمة السياسية في سوريا، حيث تُستخدم قضية المرأة كورقة مساومة في صراعات القوى. الاعتراف بحقوق المرأة ومشاركتها ليس رفاهية، بل اختبار حقيقي لجدية أي مشروع سياسي يسعى نحو التغيير والعدالة.