ميدان بلا سيادة.. من يملك القرار في سوريا الجديدة؟
10 ابريل 2025
تثير الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لسيادة الأراضي السورية العديد من التساؤلات حول توقيتها، وأهدافها، وتداعياتها الجيوسياسية على المنطقة والإقليم.
وقد تصاعدت المخاوف مؤخرًا من احتمال تحوّل سوريا إلى ساحة مواجهة بين إسرائيل وتركيا، على خلفية الهجمات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت، في الثاني من نيسان/أبريل الماضي، عددًا من المواقع والمطارات السورية، إضافة إلى توغّل قوات إسرائيلية في ريف درعا الغربي، ما أسفر عن سقوط عدد من الشهداء وإصابة العديد من المدنيين.
إلا أن دخول الإدارة الأميركية على خط الأزمة قد يساهم، وفقًا لمراقبين، في الحيلولة دون وقوع صدام مباشر بين إسرائيل وتركيا على الأراضي السورية، إذ عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال لقائه الأخير برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، عن عدم رغبته في تفاقم الخلاف بين تل أبيب وأنقرة، عارضًا التوسط بين الطرفين.
ويُفسَّر هذا الحرص الأميركي على تهدئة التوتر بين أنقرة وتل أبيب بالعلاقات "المميزة" التي تجمع ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فضلًا عن كون تركيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وبالفعل، أفادت عدة مصادر بإطلاق دينامية جديدة في المفاوضات التركية الإسرائيلية بشأن الملف السوري.
ما يحدث ليس صراعًا على النفوذ، إنما هو سعي لإعادة هندسة المنطقة بالكامل، وذلك بين مشروع تركي يراكم وجوده عبر التفاهمات، وآخر إسرائيلي يحفر وقائعه بالقصف والوصاية
ومع ذلك، يلفت الباحث السوري مالك حافظ، في حديث لموقع "ألترا سوريا"، إلى ضرورة الانتباه إلى أنّ "الولايات المتحدة لا تنظر إلى سوريا كدولة ذات سيادة، بل كرقعة جيوسياسية ينبغي ألّا يسيطر عليها طرف بعينه، بل تظل مفتوحة لمساومات طويلة الأمد.
وإذا أخذنا في الحسبان أنّ واشنطن لن تفرّط في علاقتها مع إسرائيل، لكنها في الوقت نفسه لا ترغب في معاداة تركيا بشكل مباشر، فإنها ستسعى إلى خلق مساحة من (تقاطع المصالح) المؤقت، تتعايش فيها القواعد التركية مع شروط إسرائيلية ضمنية. وبالتالي، فإن السيناريو المرجح هو أن تلعب واشنطن دور (المنسق الصامت)، عبر إعادة توزيع الأدوار بين الطرفين داخل سوريا، دون إعلان موقف واضح".
وفي خضم هذا التنافس الإقليمي على سوريا، يظل الطرف العربي هو الغائب الأكبر عن المشهد، مكتفيًا -حتى الآن- بدور المتفرّج. وإذا استثنينا بيانات الإدانة التي تصدر من حين لآخر عن بعض العواصم العربية عقب كل عدوان إسرائيلي جديد، فإن الدول العربية لا تزال تتعامل مع الملف السوري بشكل فردي، بدلًا من أن تنسّق مواقفها ككتلة إقليمية قادرة على التأثير في معادلات المنطقة. وعليه، يمكن القول إنّ الملف السوري يُدار حاليًا على طاولات غير عربية، بأجندات خارجية لا تعبّر عن أولويات الشعب السوري ولا تمثّل مصالحه.
سوريا في ميزان النفوذ الإقليمي بين أنقرة وتل أبيب
تتحدث بعض الدوائر الإسرائيلية عن "تمدّد تركي مقلق" داخل العمق السوري، من شأنه -بحسب هذه التقديرات- أن يقيّد من حرية الحركة العسكرية الإسرائيلية، ويعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمي في المنطقة.
ويبدو لافتًا أن هذا "القلق الإسرائيلي" لا يستند فقط إلى اعتبارات أمنية، بل تغذّيه أيضًا تصورات أيديولوجية ترى في تركيا مشروعًا تنافسيًا ذا جذور إمبراطورية، يطمح إلى إكمال ما بدأته إيران من جهة "الهلال الشيعي". وتذهب بعض مراكز الدراسات الإستراتيجية في إسرائيل إلى القول إنّ اكتمال هذا المشروع من شأنه أن يضع إسرائيل يومًا ما في مواجهة مزدوجة مع مشروعين إمبراطوريين، دون امتلاكها القدرة الفعلية على الاحتواء أو الردع.
هذه الرؤية الإسرائيلية، التي لا تفرّق بين تركيا وإيران كدولتين حديثتين لهما ماضٍ إمبراطوري، تتسم بنزعة إمبريالية، لكنها في المقابل، تنطبق أيضًا على إسرائيل نفسها، التي تمارس فعلًا لا افتراضًا سياسة توسعية واحتلالية، لا تقتصر على الأراضي الفلسطينية، بل تمتد أيضًا إلى أراضٍ سورية، مع سعي دائم إلى بسط السيطرة على مزيد من الأراضي.
أما من حيث الأسباب المباشرة لهذا التوتر، فيرى مراقبون أن سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد -الذي كانت إسرائيل تعتبره ضمانة أمنية شبه مطلقة بالنسبة لها- أدّى إلى حالة من القلق في تل أبيب، خصوصًا في ظل ضبابية هوية النظام الجديد ومواقفه، رغم الرسائل التطمينية التي حاول إرسالها.
غير أن هذه الرسائل لم تكن كافية، كما يبدو، لطمأنة القيادة اليمينية المتشددة في إسرائيل، التي أعلنت سعيها لإعادة رسم خرائط سياسية جديدة في الشرق الأوسط، مستفيدة من الدعم الأميركي اللامحدود في عهد دونالد ترامب، في وقت تتشابك فيه الصراعات المحلية والإقليمية والدولية على الساحة السورية، وبات من الواضح أنّ جزءًا كبيرًا منها يدور حول سوريا لا بداخلها فقط.
وبشأن الغارات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، يرى مراقبون أنها حملت رسالة مباشرة إلى تركيا مفادها أن تل أبيب "لن تسمح بالمساس بحرية عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية".
فإذا كانت إسرائيل قد عبّرت في السابق عن قلقها من الوجود الإيراني والميليشيات التابعة لطهران، في ظلّ علاقة التبعية التي ربطت بين نظام بشار الأسد وإيران، فإنها تخشى اليوم من تنامي النفوذ التركي، خصوصًا في ضوء احتمالات التقارب السياسي والعسكري بين دمشق وأنقرة مستقبلًا.
وتكاد تل أبيب تصرح علنًا: "لا نريد سوريا محمية تركية". فثمة أحاديث متواترة عن نية تركيا إقامة قواعد عسكرية في سوريا، وقد ذكرت تقارير أن وفودًا تركية زارت مواقع سورية للاطلاع على البنية التحتية للمطارات والمراكز العسكرية واختيار الأنسب منها لإنشاء قواعد تركية دائمة، ما أثار قلقًا كبيرًا في إسرائيل التي اعتبرت الخطوة "تهديدًا محتملًا لأمنها القومي"، قد يقيّد حرية عملياتها الجوية في سوريا والمنطقة عمومًا.
وإذا صحّ أن الهدف من الضربات الإسرائيلية الأخيرة هو منع تركيا من تنفيذ مشروعها في سوريا، فإن ذلك يعني، كما يشير الكاتب والباحث السوري مالك حافظ في حديث لموقع "ألترا سوريا"، أن إسرائيل انتقلت من استراتيجية "الضربات الوقائية" إلى نمط جديد من "الهجمات التأسيسية"، التي تهدف إلى إعادة صياغة ميزان القوى في الداخل السوري، بما يمنع السلطات الجديدة من بسط سيادة كاملة على أراضيها، ويُبقي هذه السيادة "منقوصة ومشروطة" بقوة السلاح الإسرائيلي، لا بقواعد القانون الدولي. وقد بدا ذلك جليًا في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أكد أن تل أبيب "لن تسمح لقوات النظام الجديد بالتموضع جنوب دمشق".
ويؤيد الكاتب والروائي منصور المنصور هذه الرؤية، إذ يرى أن تركيا باتت لاعبًا محوريًا في الساحة السورية، وتتمتع بنفوذ واسع جعلها تُصنَّف كراعٍ رئيسي للنظام الجديد، ومتحدث غير رسمي باسمه. وقد عزّزت أنقرة هذا الدور عبر سلسلة خطوات سياسية وعسكرية، من أبرزها الحديث عن اتفاقية دفاع مشترك محتملة مع الحكومة السورية الجديدة، وتزويد الجيش السوري المستحدث بالسلاح والتدريب، ما أثار حفيظة عدد من الدول الإقليمية، وعلى رأسها إسرائيل.
وبحسب موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، فقد بدأت تركيا بالفعل جهودًا لإنشاء قاعدة عسكرية في مطار "T4" قرب مدينة تدمر وسط سوريا، مع خطط لنشر أنظمة دفاع جوي هناك، ما يتيح لها تعزيز سيطرتها الجوية في المنطقة، ودعم عملياتها ضد تنظيم "داعش"، الذي لا يزال يحتفظ بخلايا نشطة في البادية السورية. ونقل الموقع عن مصدر عسكري أن نشر أنظمة دفاع جوي وطائرات مسيّرة تركية قد يسهم كذلك في ردع إسرائيل عن شن غارات جديدة في تلك المنطقة.
وأشار الموقع إلى أن أنقرة ودمشق تتفاوضان، منذ الإطاحة ببشار الأسد، على اتفاقية دفاعية مشتركة قد تتيح للحكومة السورية الجديدة الحصول على غطاء جوي وحماية عسكرية، في ظلّ غياب جيش نظامي فعّال.
لكن يبقى السؤال المطروح: كيف سترد القيادتان السورية والتركية على هذه "الرسائل النارية" الإسرائيلية؟ هل ستواصلان تنفيذ مشروع التحالف الاستراتيجي، أم سترتدان عنه تحت وطأة الضغط الإسرائيلي؟
في المشهد الراهن، لا يبدو أن سوريا على وشك استعادة سيادتها الفعلية، بل على وشك أن تُعاد هندستها كمنطقة نفوذ بين قوى إقليمية متنافسة
ممر داوود
تسعى إسرائيل، حسب بعض التسريبات، إلى إنشاء ممر يُعرف بـ"ممر داوود"، وتتحدث تلك التسريبات عن دور مفترض لقاعدة التنف وفصائل عسكرية سورية في هذا المسعى.
وفي هذا السياق، نقلت مواقع إخبارية عن مراقبين قولهم إن الدخول إلى مدينة الضمير "يهدف إلى فتح الطريق بين الجنوب السوري، الذي أصبح تحت الوصاية الإسرائيلية، ومناطق سيطرة الدروز في السويداء، وصولًا إلى مناطق سيطرة قسد".
ورغم أن وجود الممر المزعوم لا يزال محصورًا في تسريبات وتحليلات وتصريحات متناثرة، فإن عددًا من الكتّاب والصحفيين والمحللين باتوا يعتبرونه "مشروعًا وشيك التنفيذ"، متحدثين عن "طريق إسرائيلي ينطلق من هضبة الجولان المحتلة، مرورًا بمحافظات الجنوب السوري: القنيطرة ودرعا والسويداء، وصولًا إلى منطقة التنف، ثم نحو المناطق الشرقية والشمالية من سوريا، ليتصل بكردستان العراق".
وتتمثل الأهداف الاستراتيجية لإسرائيل من وراء هذا "المشروع"، حسب رأي متابعين، في: "أولًا، إضعاف الخصوم الإقليميين وضمان عدم قيام حكومة مركزية قوية في كل من العراق وسوريا. وثانيًا، تفتيت المجتمعات في دول الجوار عبر رعاية كيانات طائفية وإثنية. وثالثًا، الوصول إلى مصادر الطاقة في مناطق الأكراد".
تركيا وإسرائيل: من التنابذ إلى إمكانية التفاهم
على الرغم من الاتهامات التركية لإسرائيل بالعمل على تقويض الاستقرار في سوريا، من خلال الاعتداءات المتكررة وتحريض الأكراد والدروز على التمرّد على السلطات الجديدة، وفي المقابل توجيه إسرائيل رسائل عسكرية قوية إلى تركيا عبر الهجمات المتكررة على المواقع التي يُقال إن أنقرة تعتزم نصب قواعد ودفاعات جوية فيها، إلا أنّ بعض المراقبين يقدّمون قراءات أكثر براغماتية، ترى أن الصراع بين الطرفين لا يتجه بالضرورة نحو الانفجار، بل نحو تفاهمات ضمنية تُدار بوساطة أميركية، وتُبنى على تقاطع المصالح لا انسجامها.
فبينما تسعى إسرائيل إلى منع تشكّل جيش مركزي في سوريا قد يقيّد حركتها، تعمل تركيا على ترسيخ نفوذ مستدام من خلال اتفاقات دفاعية ومشاريع إعادة الإعمار. وبالتالي، لا يُعد القصف الإسرائيلي لمواقع يُعتقد أن أنقرة تنوي استخدامها إعلان حرب بالضرورة، بل محاولة لرسم حدود النفوذ بالقوة قبل التفاوض.
ومع ذلك، يستبعد الباحث مالك حافظ، في حديث لـ"الترا سوريا"، أن يتم التراجع الفوري عن التفاهمات التركية ـ السورية المشتركة، بما في ذلك مشروع إنشاء قواعد عسكرية تركية، لأن هذا المشروع يخدم أجندة مزدوجة للطرفين.
فمن جهة، تسعى السلطة الانتقالية السورية إلى سدّ الفراغ الأمني الذي خلّفه انسحاب الإيرانيين وحلّ الميليشيات المحلية والأمنية السابقة، ومن جهة أخرى، ترى تركيا أن ترسيخ وجودها في العمق السوري هو ضمان استراتيجي طويل الأمد لمنع قيام نفوذ واسع ومستقر للقوى الكردية المدعومة أميركيًا، وتحقيق موقع تفاوضي أقوى في أي ترتيبات إقليمية لاحقة. ورجّح حافظ أن تتم إعادة ضبط إيقاع المشروع، إما عبر إبطاء تنفيذه أو إعادة صياغة حضور القواعد بشكل تقني لا يستفز الجانب الإسرائيلي.
وكان مصدر عسكري في وزارة الدفاع السورية الجديدة قد أفاد بأن مباحثات جرت خلال الأسابيع الماضية بين مسؤولين سوريين وأتراك للتنسيق والرد على أي تحرك إسرائيلي في الجنوب، وقد يشمل ذلك توقيع اتفاقيات دفاع مشترك بين الطرفين، ونشر نقاط دفاع جوي لمنع الهجمات الإسرائيلية.
خيارات دمشق
يرى الصحفي والأكاديمي المتخصص في الشأن الإسرائيلي، خالد خليل، في حديث مع "الترا سوريا"، أن لدى حكومة دمشق عددًا من الأوراق للتصدي للمشاريع الإسرائيلية في البلاد، منها "تعزيز الاستقرار الداخلي الذي يُعد أولوية قصوى في المرحلة الراهنة، وخلق توازنات أمنية إقليمية، إذ إن كانت تركيا دولة مهمة جدًا في المنطقة، فعلى دمشق أن توازن بينها وبين كل من مصر والسعودية وغيرهما، لأن الاستئثار التركي بالنفوذ يعطي ذرائع لإسرائيل ويعقّد مشكلة قسد".
ويضيف: "توجد أيضًا الورقة الدبلوماسية التي يمكن للحكومة السورية استخدامها بفاعلية على الساحة الدولية، من خلال الضغط عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن لوقف الاعتداءات الإسرائيلية". إضافة إلى ذلك، هناك "فرصة لبناء علاقات خاصة مع الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل خيبة أمل دول الاتحاد من الولايات المتحدة في الملف الأوكراني وغيره، ما يفتح المجال أمام تعاون فعّال مع بروكسل".
ومع ذلك، يمكن القول إن سوريا، في المشهد الراهن، لا تبدو على وشك استعادة سيادتها الفعلية، بل على أعتاب إعادة هندستها كمنطقة نفوذ بين قوى إقليمية متنافسة. ومع تصاعد المواجهة التركية – الإسرائيلية، وتراجع مركزية القرار السوري، تتكرّس معادلة خطيرة: من لا يكون جزءًا من المفاوضات، سيُصبح جزءًا من الأرض التي يُعاد رسمها.
ما يحدث ليس مجرّد صراع نفوذ، بل هو محاولة لإعادة تشكيل المنطقة بالكامل؛ بين مشروع تركي يراكم حضوره عبر التفاهمات، وآخر إسرائيلي يفرض وقائعه بالقصف والوصاية. أما العرب، فبين غائب أو مراقب، يتركون الخرائط تتشكّل من دونهم.
ولا يقتصر الخطر الحقيقي على المشاريع المتنافسة، بل يمتد إلى غياب الدولة السورية الموحّدة، والرؤية العربية الجامعة، والوعي الشعبي بأن السيادة لا تُستعاد بالتمنّي، بل تُنتزع بالفعل.