1. عشوائيات
  2. مجتمع

هجرة الأطباء من مصر.. ملايين المرضى يدفعون الثمن

24 يمشي 2025
شهدت السنوات الأخيرة العديد من الاعتداءات على الكوادر الطبية داخل المستشفيات (GETTY)
عماد عنانعماد عنان

عرف المصريون الطب، علمًا ومهنة، قبل ألاف السنين، فكانوا من أوائل الحضارات التي أثرت الإنسانية بالاكتشافات العلمية في مجال التطبيب والعلاج لكثير من الأمراض التي كانت منتشرة قديمًا، ويُنسب إليهم أول كتاب جامع لأكثر من 700 علاج وتعويذة للعديد من الأمراض الجسدية والعقلية والجراحية، والذي كُتب حوالي عام 1500 قبل الميلاد، والمدون على عدد من البرديات أشهرها بردية "إدوين سميث" وبردية "إيبرس" واللتان يعتبران من أقدم السجلات الطبية التي قدمت وصفات علاجية دقيقة.

وفي العصر الحديث كانت مصر موطن أول مدرسة للطب في المنطقة العربية، حين افتتح محمد علي باشا مدرسة الطب بأبو زعبل عام 1827، وهي التي نُقلت بعد ذلك لتصبح مدرسة الطب بالقصر العيني عام 1837، لتتحول لاحقًا إلى كلية طب القصر العيني التابعة لجامعة القاهرة، التي ظلت لعقود طويلة قبلة دراسي الطب من مختلف دول العالم، عرب وعجم.

في إحصاءات المكتب الفني التابع لوزارة الصحة فإن المسجلين والحاصلين على مزاولة المهنة من نقابة الأطباء في مصر يبلغون نحو 212 ألفًا و835 طبيبًا، يعمل منهم في قطاعات الصحة الحكومية 84 ألف طبيب فقط، أي قرابة 38% من إجمالي عدد الأطباء المسجلين

ولسنوات عدة كان الطبيب المصري الأكثر انتشارًا في بلدان العالم المختلفة، خاصة المنطقة العربية ودول أوروبا، وكانت المشافي المصرية مزارًا للباحثين عن العلاج والتداوي والتعلم، وظلت مستشفيات القصر العيني والدمرداش والشبراويشي والمنصورة أعلامًا طبية لا يغفلها مهتم بهذا المجال في أي مكان في الكرة الأرضية، ومدرسة يقصدها الحالمون بامتهان الطب والعمل في هذا المجال.

لكن اليوم الوضع مختلف، فلم تعد مصر قبلة أطباء العالم ودارسي العلوم الطبية، ولم تعد مشافيها حلم كل من يمتهن تلك المهنة الدقيقة والحساسة،  لتتحول مع مرور الوقت إلى بيئة طاردة حتى لأبنائها من الأطباء، أصحاب الخبرات منهم وحديثي التخرج، ليصل الحال إلى تخوف البعض من أن تصبح رائدة الطب في العالم العربي أول دولة بلا أطباء، كما جاء على لسان أستاذ الأمراض الباطنية والسكري بجامعة هارفارد، الدكتور أسامة حمدي.

 أطباء مصر يعملون بالخارج

في 12 أيار/مايو 2021 قالت وزيرة الصحة المصرية – آنذاك- هالة زايد إن مصر تعاني نقصًا كبيرًا في عدد الأطباء رغم أن عدد خريجي كليات الطب فيها يبلغ 9 آلاف طبيب سنويا، لافتة في -في لقائها مع برنامج "كلمة أخيرة" المذاع عبر فضائية "أون إي" (ON E) أن 65% من الأطباء المصريين يعملون خارج البلاد.

وفي إحصاءات المكتب الفني التابع لوزارة الصحة فإن المسجلين والحاصلين على مزاولة المهنة من نقابة الأطباء في مصر يبلغون نحو 212 ألفًا و835 طبيبًا، يعمل منهم في قطاعات الصحة الحكومية 84 ألف طبيب فقط، أي قرابة 38% من إجمالي عدد الأطباء المسجلين، والباقي والبالغ نسبته 62% من الأطباء المسجلين يعلمون إما في عيادات خاصة أو خارج مصر.

هذا النقص الواضح في عدد الأطباء، انعكس بطبيعة الحال على مستوى الخدمة الصحية المقدمة، وقدرة المنظومة الطبية المصرية على الوفاء بالتزاماتها تجاه المرضى، ففي مصر هناك طبيب لكل 1162 شخصًا، وهو أقل بكثير من المعدل العالمي الذي أقرته منظمة الصحة العالمية، والقاضي بتخصيص طبيب لكل 434 شخصًا.

هذا بخلاف النقص الشديد في المستشفيات، فهناك مدن بأكملها تعاني من عجز فاضح، مثل محافظة مطروح (شمال غرب) والتي لا يوجد بها سوى 5 مستشفيات فقط فيما يبلغ تعدادها نصف مليون مواطن، كذلك محافظة المنيا التي بها مستشفى واحد لكل 172 ألف مواطن من إجمالي سكانها البالغ 6 مليون نسمة، أما محافظة الأقصر (جنوب) فبها اختصاصي تخدير واحد فقط في المستشفيات الحكومية التي تلبي الاحتياجات الصحية لقرابة 1.3 مليون نسمة، بخلاف 1800 قرية منتشرة في ربوع مدن مصر، وبها مئات الوحدات الصحية، دون طبيب واحد.

ومما زاد من تفاقم الوضع موجة الاستقالات بين الأطباء، والتي بلغت مستويات مقلقة، فخلال الفترة بين 2019 – 2022، أي في خلال 3 سنوات فقط، تقدم نحو 11 ألفًا و536 طبيبًا باستقالتهم من العمل الحكومي، الكارثة ذاتها في بقية الكوادر الطبية، خاصة قطاع الممرضات، حيث الميل نحو البحث عن فرص عمل بالخارج، خاصة في دول الخليج ذات الرواتب المرتفعة.

بيئة طاردة

من خلال شهادة 5 من الأطباء المصريين تحدثوا إلى "ألترا صوت" يمكن إرجاع ظاهرة هجرة الأطباء وتحويل مصر إلى بيئة طاردة لهم إلى 3 أسباب رئيسية:

أولًا: الرواتب والأجور المتدنية

بحسب نقابة الأطباء المصرية، فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر، بعد الاستقطاعات الضريبية والمعاشية، يصل لنحو 3700 جنيه مصري (نحو 74 دولارًا)، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 عامًا من العمل الحكومي 2300 جنيه (نحو 46 دولاراً)، فيما يصل راتب النائب لنحو 9000 جنيهًا ( 180 دولارًا).

"مثل هذا الراتب لا يكفي طفل صغير، لا طبيب بذل حياته كلها في سبيل العلم وتفوق على مدار سنوات دراسته لأجل أن يتبوأ مكانة مقبولة في المجتمع "، هكذا علق أحمد الشاذلي ( أخصائي أطفال) على مظلة رواتب وأجور الأطباء في مصر، لافتًا أن هناك بون شاسع بين الرواتب المصرية والخليجية على سبيل المثال.
وأضاف الشاذلي في حديثه لـ "الترا صوت" أنه قضى 5 سنوات في إحدى بلدان الخليج كان راتبه هناك قرابة 4 ألاف دولار شهريًا، أي ما يزيد عن 200 ألف جنيه مصري، ما يعني بحسبة بسيطة أن راتب شهر واحد فقط في الخارج يعادل قرابة راتب عام كامل في مصر، متسائلًا: إن كان الوضع هكذا فهل هناك من مجال للمقارنة؟ وما الذي يبقيني في دولة لا تقدر قيمة عقولها؟

ثانيًا: مخاوف الحبس والتغريم

لم تكن الرواتب المعضلة الوحيدة وراء هجرة الأطباء، فالخوف المتصاعد من تعرض الطبيب للحبس أو التغريم بسبب أداء مهام عمله أحد الأسباب المحورية التي دفعت الكثير من العاملين في مهنة الطب للخروج والبحث عن فرص عمل خارجية، وهو ما يوثقه الجدل الدائر حاليًا بسبب قانون المسؤولية الطبية الذي تناقشه الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية لضبط العلاقة بين الطبيب والمريض وتقنين الأخطاء المرتكبة أثناء الممارسات الطبية.

القانون الذي يتألف من 30 مادة، فجر ينابيع الغضب داخل الأسرة الطبية، خاصة المادتَين (27) و (29)، حيث تنص الأولى على "معاقبة الطبيب بالحبس إذا ما ارتكب خطأً أثناء الممارسة الطبية أدى إلى وفاة المريض" وقد قُسمت تلك العقوبة إلى ثلاثة مستويات: الحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وغرامة لا تجاوز مائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تسبب مقدم الخدمة بخطئه الطبي في وفاة متلقي الخدمة، الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تجاوز خمسمائة ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا وقعت الجريمة نتيجة خطأ طبي جسيم، أو كان مقدم الخدمة متعاطيًا مسكرًا أو مخدرًا عند ارتكابه الخطأَ الطبيَّ، أو امتنع عن مساعدة من وقعت عليه الجريمة مع تمكنه من ذلك، وأخيرًا الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على سبع سنوات إذا نشأ عن الخطأ الطبي وفاة أكثر من ثلاثة أشخاص.

أما المادة (29) فتتعلق بالحبس الاحتياطي للأطباء أثناء إجراء التحقيقات بشأن الخطأ الطبي المرتكب، إذ تنصّ على أن "تصدر أوامر الحبس الاحتياطي ومدة في الجرائم التي تقع من مقدم الخدمة أثناء تقديم الخدمة الطبية أو بسببها من عضو نيابة بدرجة رئيس نيابة على الأقل أو من في درجته".

في تقرير صادر عن مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية المعنية بالأوضاع الحقوقية في مصر في تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإن عدد الأخطاء الطبية التي يرتكبها الأطباء في مصر تبلغ 180 ألف خطأً سنويًا، بسببها يُشطب نحو 20 طبيبًا كل عام من نقابة الأطباء، هذا قبل إقرار قانون المسؤولية الطبيبة الذي من المتوقع إذا ما تم تمريره سيكون هناك عشرات الالاف من الأطباء معرضون لعقوبات تصل إلى الحبس والغرامة، وهو ما يكبل أيادي كثير منهم ويدفعهم نحو تجميد عمله أو البحث عن فرص أخرى خارج البلاد.

ثالثًا: العنف ضد الأطباء

شهدت السنوات الأخيرة العديد من الاعتداءات على الكوادر الطبية داخل المستشفيات من قِبل أهالي المرضى والمراجعين، في ظل ضعف الحماية اللازمة للأطباء والمرافق الصحية بشكل عام. وهو ما يجعل العاملين في القطاع الطبي عرضةً للعنف، الذي يصل أحيانًا إلى التسبب بعاهات مستديمة لبعض الأطباء وأطقم التمريض.

ورغم الجهود المبذولة والقوانين التي تقرها الحكومة لحمايتهم إلا أن حجم الاعتداء في تصاعد مخيف، دفع كثير من الأطباء لتقديم استقالتهم أو على الأقل السفر للخارج حسبما أشار الطبيب سعد كامل ( استشاري أسنان) والذي كشف في حديثه لـ "الترا صوت" أن أكثر من ثلثي دفعته سافروا لدول الخليج وأوروبا هربًا من جرائم الاعتداء عليهم والتي لا يُتخذ بشأنها أي إجراءات قانونية، وتخلص في النهاية إلى تقديم اعتذار من المعتدي لا يُقدم ولا يؤخر،  ولا يحفظ للطبيب كرامته ولا أمانه.

ويتعرض نحو 88% من الأطباء العاملين في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية للعنف اللفظي من ذوي المرضى، فيما يواجه 42% منهم عنفًا جسديًا، مقابل 13.2% يتعرضون للتحرش الجنسي وفق دراسة نشرتها دورية "ساينتفك ريبورتس" بناءً على نتائج استطلاع للرأي شمل 250 طبيبًا في 13 محافظة مصرية في الفترة بين كانون الثاني/ يناير ونيسان/أبريل 2023.

المرضى هم الضحية

في حال استمرار نزيف العقول وهجرة الأطباء المصريين للخارج على هذا المنوال وبتلك المعدلات فإن المنظومة الصحية المصرية على موعد مع نفق مظلم للغاية، نقص في الكوادر وعجز في الإمكانيات وتراجع في المخصصات المالية، يدفع ثمنه المرضى ممن ليس لهم سبيل للعلاج سوى المستشفيات الحكومية المترهلة، بعدما بات التطبيب الخاص رفاهية لا يمتلكها السواد الأعظم من المصريين.

ومع التزايد الكبير في أعداد المرضى في مقابل محدودية المراكز والمشافي الصحية الحكومية، بالتزامن مع الارتفاع الجنوني في أسعار الأدوية والمستلزمات الطبية بسبب أزمة الدولار ونقص السيولة الأجنبية، لم تعد المستشفيات التابعة لوزارة الصحية المصرية ولا المنضوية تحت لواء وزارة التعليم العالي (المستشفيات الجامعية) قادرة على استيعاب المرضى وتقديم الخدمات الصحية الكاملة والضرورية لهم.

وهناك في مصر 23 مليون مريض بأمراض مزمنة (أمراض القلب، مثل السكتات القلبية والدماغية وارتفاع ضغط الدم، السرطان بأنواعه، أمراض الجهاز التنفسي المزمنة، مثل الأزمة والانسداد الرئوي المزمن، داء السكري) يحتاجون إلى خدمات صحية مستمرة وعلاج لفترات طويلة تمتد معهم طيلة حياتهم تقريبًا، ومن ثم فإن أي تقصير في أي من أضلاع المنظومة الصحية -على رأسها عجز الأطباء- سيضع حياة كل تلك الملايين على المحك.

كلمات مفتاحية

الفاتيكان عند مفترق طرق.. هل يشهد التاريخ أول بابا إفريقي في العصر الحديث؟

تبدو إفريقيا مرشحة لأن تكون في قلب التغيير الكنسي، وسط توقعات تاريخية بإمكانية انتخاب أول بابا إفريقي في العصر الحديث، في خضم صراع بين التيارين التقدمي والمحافظ

الإسكان الاجتماعي المصري.. حلم الشباب في شقة يتبخر

تحول السكن اليوم إلى حلم بعيد المنال للملايين من الشباب من أبناء الطبقة المتوسطة

مخيمات مكتظة وأطفال جياع.. لاجئو السودان يواجهون مصيرًا مجهولًا في تشاد

تشير تقارير مفوضية اللاجئين إلى أن مقاطعات شرق تشاد، التي تأوي أصلًا 400 ألف لاجئ سوداني لجأوا إليها عقب اندلاع حرب دارفور عام 2003، تُعد من بين أكثر المقاطعات حرمانًا في البلاد

TEST TEST TEST

test test final

image

test 3

سياق متصل

وقف إطلاق النار في لبنان يهتزّ... الجيش اللبناني يلتزم بالـ"ميكانيزم" وقلق من تسخين جديد للجبهة