هروب بشار الأسد أعظم خدمة قدمها للعلويين
8 يناير 2025
لم يكن أبي يومًا رجلًا عسكريًا، وليس بين إخوتي وأعمامي وأخوالي وأبنائهم من اختار التطوع في السلك العسكري. بل إن القاسم المشترك بينهم جميعًا هو أنهم يعتبرون الخدمة الإلزامية، والاحتياطية لمن أُرغم عليها، من أسوأ مراحل حياتهم.
لا أقول هذا بغرض التبرؤ من نظام بشار الأسد، الذي أعترف أنني قضيت أكثر من ثلثي عمري في موالاته بكل ما أوتيت من بلاهة. غايتي الآن هي تقديم لمحة عن الطريقة التي جيّش فيها المجتمع العلوي، أو "أوهمهم فأصبح سيدًا لهم"، وبنى بذلك حول نفسه درعًا بشريًا من شبابهم، بصفتي واحدة من أبناء هذا المجتمع.
الشعوب تُقاد بشكل خاص بروح عرقها
كنت في الثامنة من عمري، ألعب "بيت بيوت" مع صديقتي على الدرجات التي تفصل بيتنا عن الطريق، عندما هرعت جارتنا إلى بيتها مسرعة وهي تضرب رأسها وتولول: "ويلي، ويلي، اللهم لا تجعلهم يضعون غير ابنه في مكانه".
تبادلت وصديقتي النظرات، ثم ذهبت كل منا إلى أمها تستطلع ما حدث. كانت أمي منخرطة في بكاء صامت فلم تردّ على تساؤلاتي، وعدت إلى مكان اللعب، بينما ظهرت صديقتي بعد برهة تسير متباطئة ووجهها نحو الأرض. قالت لي: "مات حافظ الأسد". سألتها: "من حافظ الأسد؟". قالت: "الرئيس! الموجودة صورته على دفاترنا". ثم عادت أدراجها، بينما قلدت وجومها وطأطأت رأسي بشكل محترف وصعدت إلى البيت. بعد ساعات، كانت الأعلام السوداء تعلو أسطح البيوت في القرية. توسلنا أمي لتسمح لنا بصعود السطح وتعليق قميص قديم أسود على عصا مكنسة مكسورة، أسوة بحداد الجميع.
عندما شاع خبر هروب بشار الأسد، وبدأ عناصر من إدارة العمليات العسكرية دخول القرى المحيطة بنا، همس البعض بأن ما يجري قد يكون خدعة عسكرية
بعد أسابيع، كان وجه جارتنا متهللًا وهي تحكي لأمي وجدتي عن تبدد قلقها على ابنها الذي يعمل في العاصمة، فلولا "انتخاب" بشار الأسد رئيسًا لكان أبناء دمشق قد هجموا بالسواطير على الوافدين من القرى. ثم دعت له بالعمر الطويل والجلوس المديد على كرسيّ الرئاسة، لأن مجرد جلوسه على الكرسي "يحقن دماء ملايين الأبرياء في سوريا".
وبسبب كثرة تداول أسماء رجال العائلة الحاكمة في البيوت والمدارس والمجالس، بات وجودهم حتميًا حتى في منامات الصغار. أذكر تمامًا عندما قصصت لجدتي ثم لزوجة شيخ القرية، بناء على طلب نساء عائلتي، رؤياي عن زيارة حافظ الأسد لقريتنا، وكيف تسابقنا لنفرش له الأرض "بالحصر"، إذ لم يكن اختراع السجاد قد وصل قريتنا البائسة بعد. أجمعت النساء يومها على قدسية هذه الرؤيا والتفاسير الخيّرة التي تنطوي عليها، فالقائد "شيخ مؤمن"، ويكاد أن يكون بمنزلة الملائكة. إن أحاديث مثل هذه وتلك، وما تلاها من اجتهادات معلمي مدارس البعث واتحاد شبيبة الثورة ومن ثم الاجتماعات الحزبية، كانت كافية لأن يزرع في وعينا قدسية ورمزية القائد الخالد وابنه الذي يسير على خطاه.
البعض قد يمكن إقناعهم، وأما الآخرون فلا يحيدون عن موقفهم أبدًا
في دمشق عام 2011، كانت المرة الأولى التي تحدث فيها أحد بالسوء أمامي عن بشار الأسد وأخيه ماهر. ولولا أن الحديث كان من أقرب زميلات الدراسة، لكنت مستعدة لأن أدخل معها في عراك. جزمت في قرارة نفسي بقصور نظرها قبل أن تسود القطيعة بيننا، لكن عباراتها عن "الشبيحة وأفعالهم" في دوما بقيت موءودة في رأسي، لتعاود الطفو بعد سنوات من عودتي إلى طرطوس، تحديدًا في 2014، إثر حديث مع زميل في الجامعة الافتراضية مقيم في حلب عن فعائل البراميل التي يلقيها نظام الأسد على الأحياء المدنية. أرسل لي صورًا لمزرعتهم قبل القصف وبعده.
لم يكن أمامي سوى تصديق الصوت الآخر وإيلائه الاهتمام، وبدء النظر إلى النظام على أنه مذنب فعلًا. وكانت تلك صفعة لا أنساها. لم يكن بوسعي إشهار المعارضة، خصوصًا مع تدفق الأكفان العسكرية بشكل يومي إلى قرانا، والقمع العنيف الذي يجابه به أي شخص يتحدث عن "أخطاء" يرتكبها نظام "مُنزّه" في نظر الأغلبية.
كل ما استطعت فعله هو التوقف عن التأييد واتخاذ موقف رمادي داخليًا، كما معظم الذين أعرفهم ممن لم يجنوا من موالاة النظام سوى الويلات. وهذا بالتأكيد يتعارض مع حرصنا على الذهاب شخصيًا لانتخاب "فخامته" في مراكز الاقتراع. إذ كان صمتنا في بعض المحاضر ورقة إدانة يجب دحضها، و"اليد التي لا تستطيع كسرها بوسها وادعي عليها بالكسر".
السقوط
لم يكن يُطلق عليه "تحريرًا" في قواميسنا بعد؛ كان سقوطًا، فالطرفان كانا وجهين لعملة واحدة حتى تلك اللحظة. حلب، ثم حماة، وبعدها حمص، لا أظنّ أن سوريًا واحدًا في تلك الفترة كان قادراً على إشاحة نظره عن هاتفه المحمول. كنت أستيقظ في الليل لأتصفح الأخبار، ثم أشد الغطاء على ابنتيّ اللتين لم أعد أجرؤ أن أسمح لهما بالنوم في غرفتهما. كان الأرق يدفعني إلى رسم سيناريوهات تُقتحم فيها منازلنا، وأتخيل السكاكين التي قد نلجأ إليها لإنهاء حياتنا، وأبتكر العبارات التي سأتوسل بها إلى المقاتلين ليقتلوا ابنتيّ قبلي، كي لا يفسد أي ذعر مخيلتيهما الممتلئة بالعصافير وأقواس قزح. ثم ليفعلوا بي ما يشاؤون، فليبقروا رحمي الحبلى، وليقطعوا أوصالي، فبعد الصغيرتين لن أكترث لشيء.
عندما شاع خبر هروب بشار الأسد، وبدأ عناصر من إدارة العمليات العسكرية دخول القرى المحيطة بنا، همس البعض بأن ما يجري قد يكون خدعة عسكرية. ربما لم يرغبوا في تصديق أن القائد الذي لا يُهزم قد هُزم. كانت العائلة كلها مجتمعة في غرفة الجلوس عند الرابعة فجرًا. كان القلق يسود الجو، لكنه كان مشوبًا بخفة غريبة. لا أحد منا كان يدرك سبب شعوره بالغبطة في أكثر لحظات التاريخ حسمًا. ربما لأننا شهدنا سقوط الطاغية الذي أقنعنا يومًا بأنه لا يسقط. سيجدوننا جميعًا عزّلًا في غرفة واحدة، لن نهدر الكثير من وقتهم، مشط واحد يكفي لإردائنا قتلى جميعًا. لكن الصباح أتى، ولم يأتِ أحد.
في العاشرة صباحًا، أعلن جامع القرية وفاة شاب عشريني، لم يجرؤ أحد على تأبينه "شهيدًا" كما كان يحدث عادة. كان عسكريًا إلزاميًا انسحب في حافلة لم يتوقف سائقها على حاجز لهيئة تحرير الشام، فأمطروه بالرصاص. كانت الجنازة مختصرة؛ الجميع كان يرغب في العودة لاستقبال الموت في منازلهم، وقد أزالوا عن جدرانها صور المشايخ والفقهاء. لكن شيئًا لم يحدث، أقصد في قريتنا والقرى المجاورة الخالية من ثارات الشبيحة. لم يُذبح أحد، ولم يُفتش أي منزل. حتى إن عناصر السلطة الجديدة الذين حضروا لاستبدال العلم أظهروا منتهى اللطف والودّ.
من يحدق في وجوه العلويين في تلك الفترة، لم يكن ليخفى عليه كمّ التخبط الذي يعيشونه في ظل الصمت الرسمي المطبق من قبل النظام المخلوع. لقد حدث ما خالف جميع توقعاتنا. صفحات "فيسبوك"، باعتبارها منصة التواصل الاجتماعي الأكثر شيوعًا في سوريا، كانت تعكس ذلك أيضًا. ما بين مستسلم، ومتشائم يعد العدة للنزوح، وآخر يستفيض في الحديث عن المجازر الطائفية وحالات التنكيل والخطف، ويستبسل في وصفها على أنها النواة الحقيقية لما سيحدث لاحقًا، وجماعة تبث دعوات مفادها: "لا تحشرونا في الزاوية فتروا حقيقة بأسنا"، كان الخذلان عاملًا مشتركًا. خصوصًا بعد أن امتلأت الصفحات بصور الفخامة في القصر الرئاسي، بأنواع اللحوم والفاكهة في ثلاجاته، والماركات العالمية في خزاناته. ومقارنتها بحبات البطاطا الباردة والبيض المسلوق المزرقّ، طعامًا للجيش، والفقر المدقع الذي كشفت عنه كاميرات "المحررين" في مساكن العلويين المشيدة معظمها من "البلوك" العاري، مقابل القصور والعقارات وتفاصيل الأتاوات التي كانت تُشيّد من دمائهم وأعمارهم.
لقد تُرجم هذا الخذلان على شكل انصياع طوعيّ جماعي من قبل أبناء المكوّن الطائفي الثاني في البلاد للسلطة الانتقالية. لم تستطع بعض الشوائب القليلة أن تعكر صفوه، ولا الاستفزازات السياسية والتحريضية أن تجرّه نحو إعادة إشعال نار حرب لن ترضى بأن يكون وقودها من لون واحد. فكان هذا السيناريو الذي حدث هو الأكثر رحمة بالسوريين دون استثناء.
لو أن الرئيس المخلوع قد قضى في أرض المعركة كما الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصر الله، أو لو أنه تنحّى بطريقة استعراضية بعيدة عن طائراته التي حملت ثمن المقبوض لشعبه، لكان المنتفعون قد استمروا في "هشّ" البقية نحو موالاته باستماته، بل وعينوا له خليفة، أقصد "انتخبوا"، من يتابع مسيرة الاستعباد. إلا أن القدر كان ذا يد رحيمة؛ إذ كانت صدمة العلويين أنفسهم بما حدث بمثابة استيقاظ قاسٍ، شعروا من خلالها بأنهم قد "نُوّموا بالعسل" لسرقة أعضائهم بلا رحمة.
ثم جاء البيان الرئاسي الأخير الذي ثبت لدقائق قبل أن يتم حذفه، والذي أصر فيه المخلوع على الاستمرار في الرهان على عمى الجماهير واستكمال كذبة لم تشأ نرجسيته أن تصدق أنها باتت مكشوفة. فلم ينل من أفواههم سوى اللعن والبصاق. لتتحقق مرة أخرى مقولة لوبون: "الهيبة الشخصية تختفي دائمًا مع الفشل. فالبطل الذي صفقت له الجماهير بالأمس قد تحتقره علنًا في الغد إذا ما أدار الحظ له ظهره. بل إن رد فعلها ضده يكون عنيفًا بقدر ما كان احترامها له كبيرًا. وعندئذٍ تنظر الكثرة للبطل الذي سقط كنظير لها وتنتقم منه لأنها قد انحنت أمامه وأمام تفوقه المزعوم الذي لم تعد تعترف به".