هل تجيبنا أحداث مباراة الأهلي والزمالك عن معضلة حب الرياضة وكراهيتها؟
13 يمشي 2025
لا جديد يذكر.. أبت قمة الأهلي والزمالك ألا تشارك في المارثون الرمضاني، أو أن تمر دون أن تقدم لنا جرعة من الدراما المعتادة في السنوات الأخيرة.
حدث ذلك بعدما امتنع فريق الأهلي عن الحضور بسبب عدم جلب اتحاد الكرة المصري لحكم أجنبي لإدارة اللقاء، بينما حضر فريق نادي الزمالك إلى ملعب المباراة، والتي تولاها طاقم تحكيم مصري، وبحضور جمهور الفريقين.
مع كل خسارة للفريق الذي نشجعه تدور داخلنا عدة أسئلة من نوعية ما الذي يعود عليّ من كل هذا؟
بعيدًا عن سردية ومبررات كل فريق في الحضور إلى اللقاء من عدمه، طرأ لنا سؤالًا هامًا: هل كان من الواجب على الفريقين المشاركة في اللقاء بغض النظر عن أية اعتبارات، من أجل هذه الجماهير التي تحملت عناء الصيام والسفر لحضور اللقاء؟ وهل لو واجهت أنت نفس الموقف قد يتأثر حبك وتشجيعك لفريقك وحبك للرياضة بشكلٍ عام؟
لماذا نحب الرياضة؟
"لماذا يهمني هذا الأمر إلى هذا الحد؟ أسأل نفسي هذا السؤال منذ أن أستطيع أن أتذكر"
يعود التعليق أعلاه للكاتب الأمريكي المشهور بيل سيمونز، عندما خسر فريقه مباراة السوبر بول في دوري كرة القدم الأميركي-وهي المباراة الفاصلة التي تحدد بطل دوري كرة القدم الأمريكية- ويُقال عنها أنها المباراة الأغلى في التاريخ، والأكثر متابعة كذلك.
وعلى الرغم من بداهة سؤال سيمونز إلا إنه بمجرد التفكير فيه تجده منطقيًا ومعتاد، فمع كل خسارة للفريق الذي نشجعه تدور داخلنا عدة أسئلة من نوعية ما الذي يعود عليّ من كل هذا! ما فائدة المجهود المبذول جراء تشجيع هذا الفريق! تدور تلك الأسئلة دون أن نجد إجابة صريحة في الغالب، وما لم نلبث أن تنطفئ نار الخسارة، ثم نُعيد الكَرة تدريجيًا، وهكذا دواليك.
يقول سيمونز إنه لا يعرف منذ متى وهو يسأل نفسه أسئلة من تلك النوعية عقب كل خسارة، تخيل كاتب رياضي بحجم سيمونز ولا يستطيع إجابة تلك الأسئلة، وهنا يأتي دور علم النفس لإجابتنا.
عندما سأُل دانيال وان عالم النفس الرياضي، وأستاذ علم النفس بجامعة ولاية موراي عن سبب عشق الناس للرياضة؟ وما الدافع من الارتباط بلاعب أو فريق معين؛ كانت إجابته أنه بفرض أن هناك 2 مليار متابع للرياضة في العالم فمن المنطقي أن يكون هناك 2 مليار إجابة مختلفة عن هذه الأسئلة، لكن لو كانت هناك إجابة مشتركة بين كل هؤلاء ستكون حتمًا أن الرياضة تساعدنا جميعًا على تلبية احتياجاتنا النفسية، وتوفر لنا فرصة الاتصال بعالم أوسع، وهو ما تشرحه لنا نظرية الهوية الاجتماعية.
تساعد الرياضة على تلبية احتياجاتنا النفسية، وتوفر لنا فرصة الاتصال بعالم أوسع، وهو ما تشرحه لنا نظرية الهوية الاجتماعية
تتبنى نظرية الهوية الاجتماعية فرضية أنه في كثير من المواقف يحتاج البشر إلى التعبير عن نفسهم، ضمن جماعة أكبر وليس من منظور فردي، وعالم الرياضة يضمن لنا ذلك. تشجع أنت ومجموعة فريق ما، تفرحون لنفس السبب وهو الفوز، وتتشاركون الحزن وقت الخسارة، ومع الوقت تتكون لدينا هوية اجتماعية مشتركة، هوية أهم عناصرها هو الانتماء للمجموعة ككل، وتكمن أهميتها في تعزيز مشاعر لدينا مثل احتياجاتنا العميقة لاحترام الذات، والانتماء ومفهوم الذات الإيجابي.
لا تكتمل هذه المشاعر والهوية دون العالم الدرامي التي تخلقه اللعبة، وكأنك تشاهد فيلمًا ما، لكنك فاعل رئيسي في الأحداث، إلا أنه فيلم دون سيناريو ودون نهاية سعيدة يفوز فيها البطل حتمًا في النهاية، وإنما يفوز تارة ويخسر أخرى.
طبقًا لدراسة من جامعة كامبريدج في بريطانيا، أقيمت على 600 شخص لمحاولة تقييم العلاقة بين المشاركة الرياضية وخلق رأس المال الاجتماعي؛ بينت النتائج أن نسبة 59% أقروا أن المشاركة الرياضية النشطة أمر بالغ الأهمية لجودة الروابط الاجتماعية، كما انتهت الدراسة لأهمية الرياضة في الحفاظ على الصحة الاجتماعية والنفسية وتعزيزها، سواء كانت عن طريق ممارسة الرياضة أو المشاركة في فعاليتها المختلفة.
طبقًا لدانيال وان، عالم النفس الرياضي، ففترات الخسارة قد تكون فعلًا مضرة لصحتنا النفسية خاصةً لو طال أمدها، لكنه يتحدث أنك كمشجع للكرة أو لأي لعبة قبلت بدايةً وضمنيًا أن المكسب والخسارة متساويين في الاحتمالات، وبالتالي يكوّن معظم مشجعي الرياضة في العموم استراتيجيات للتكيف مع فترات الخسارة تلك.
يقول دانيال أنه كان يتعمد النزول لعمل استطلاعات رأي مع مشجعي الفرق الخاسرة، ويذكر أنه كان لديهم جميعًا نفس التعليق عقب الخسارة، وهو عزمهم على عدم العودة لمشاهدة هذا الفريق مرةً أخرى. يجزم دانيال أن نسبة 100% منهم يعودون في المباراة التالية ويشاهدون بنفس الحماس.
لا علاقة لها باللعب النزيه
"إن الرياضة الاحترافية لا علاقة لها باللعب النزيه، فهي محكومة بالغيرة والكراهية والتبجح وتجاهل القواعد، والمتعة السادية المتمثلة في مشاهدة العنف، وإذلال الخصم، وبكلمات أخرى إنها الحرب من دون إطلاق الرصاص". تعود وجهة النظر السابقة للكاتب الإنجليزي الشهير جورج أوريل في وصفه للرياضة، ورغم أنها قد تكون وجهة نظر متطرفة بعض الشيء في وصف الرياضة، إلا أنها مُتبناة من العديد من الكتاب وعلماء الاجتماع.
في استطلاعٍ للرأي أجرته مؤسسة صحيفة التايمز في 19 دولة، عن مدى اهتمام شعوبهم بكرة القدم؛ أتت النتائج صادمة بعض الشيء. فبالرغم من الشعبية التي تحظى بها كرة القدم، قال 50% من كولومبيا أنهم غير مهتمين باللعبة، أما عن البرازيل فكانت فيما تتراوح نسبته 40% أنهم مهتمين جدًا باللعبة فيما تباينت باقي النسبة من الاهتمام إلى حدٍ ما لعدم الاهتمام من الأساس، نحن هنا نتحدث عن أكبر دولة تصديرًا للاعبي كرة القدم في العالم.
أزيدك من الشعر بيتًا، سنة 1976نشرت مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي دراسة نقدية بعنوان الاستمتاع بالمجد المنعكس . تناولت هذه الدراسة سلوك مشجعي الكرة، وتوصلت إلى أن البعض يميل للانخراط في تشجيع الفرق واستخدام كلمة نحن بدلًا من أنا، من أجل أن يجدوا ستارًا يعوضوا به فشلهم في الحياة. وهي وجهة نظر مضادة تمامًا للنظريات التي تعتبر الرياضة جزء من تكوين الهوية والانتماء لمجتمع أكبر. إذن ما هو مبررهم في هذا الطرح؟
يطرح أحد علماء الاجتماع فرضية أنك إذا قمت بمشاهدة فيلم كوميدي هل يكون تعقيبك بعده أن الفيلم كان مضحك أم أنكم مضحكون؟ تنتهي الدراسة أن قد تعطيك الرياضة قيمة فعلًا، لكن جزءًا منها وهمي بالأساس، والسبب أنك لم تبذل فيه أي مجهود لاكتسابه، وفي نهاية الدراسة يأتي سؤالاً هامًا: إذا كنت تشاهد فيلم كوميدي من أجل الضحك، أو فيلم وثائقي من أجل التغذية المعلوماتية، فما هو الاستنتاج الذي تصل إليه من مشاهدة الرياضة؟
لا يتوقف نقد الرياضة عند هذا الحد بل يمتد إلى وصفها بـ «خرافة الرياضة العظيمة» على يد «جاي كوكلاي» أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولورادو الأمريكية، الذي بتعجب دائمًا من ربط الناس للرياضة بالصفات الجيدة، وافتراضهم أن كل الجرائم والتصرفات التي ترتبط بها هي مسئولية أصحابها فقط، دون أي إلقاء جزء من اللوم على الرياضة نفسها.
بالطبع لا يقصد علماء الاجتماع أصحاب هذه النظريات أن يكفوك عن مشاهدة الرياضة، لكن أن تضعها في نصابها الصحيح، دون إضفاء أي هالة غير حقيقية لها. ويؤكد رواد هذه النظريات أن الرياضة مجال ينتشر فيه التعصب والإهانة والعنصرية وتناول المنشطات والأمراض النفسية، وتلميع السفاحين وتبييض صورة الأنظمة الديكتاتورية، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي تضاعفت تلك الآفات.
في كتابها "الأطفال الآمنون على الإنترنت، المراهقون الأذكياء عبر الإنترنت"، تقسم الكاتبة الأمريكية نانسي ويلارد الكراهية على الإنترنت لسبع أنواع، وهي: التهييج (إرسال رسائل تهديد أو وقحة)، والتحرش (إرسال رسائل مسيئة بشكل متكرر)، وتشويه السمعة (نشر شائعات أو معلومات مضللة)، والمطاردة عبر الإنترنت (تمتد المضايقات لتشمل التهديدات الضارة)، وانتحال الشخصية ( التظاهر بأنك شخص ما من أجل إحراجه أو فضحه)، والنزهة/الخداع (الكشف عن معلومات حساسة للآخرين)، والاستبعاد (استبعاد شخص ما عمدًا من موقع على الإنترنت) المجتمع أو المجموعة.
فترات الخسارة قد تكون فعلًا مضرة لصحتنا النفسية خاصةً لو طال أمدها، لكنه يتحدث أنك كمشجع للكرة أو لأي لعبة قبلت بدايةً وضمنيًا أن المكسب والخسارة متساويين في الاحتمالات
ولو قمت بإلقاء نظرة على كل العناصر في أي مجتمع رياضي، ستجد بشكل أو بآخر أن كل هذه العناصر تتربح من اللعبة، سواء كانوا لاعبين أو مدربين أو إدارات وغيرهم ، إلا عنصر واحد فقط وهو الجمهور، وهو الممول الرئيسي لكل هؤلاء باستهلاكه للرياضة ومنتجاتها.
ورغم أننا ذكرنا في البداية أن الجمهور في حاجة للرياضة لأسباب نفسية وشخصية، إلا إنه على الوجه الآخر يخلق ذلك عند بعض الجماهير نزعة استحقاقية للسخرية وتوجيه الإهانات والشتائم الجنسية والعنصرية، سواء كان ذلك في المدرجات أو ملاحقة اللاعبين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه إحدى أنواع الكراهية اللي ذكرته نانسي ويلارد.
من المنطقي أن يغضب جماهير الأهلي والزمالك بسبب عدم لعب المباراة، لكن من غير المنطقي أن يعتدي الجمهور لفظيًا على لاعبي الأهلي بسبب تنفيذ قرار مجلس إدارتهم، ومن غير المنطقي أيضًا أن يصبح جزء من اللعبة هو ملاحقة اللاعبين وأسرهم على مواقع التواصل الاجتماعي، كجزء أصيل من اللعبة.
في بحث بعنوان وسائل التواصل الاجتماعي والنضالات السرية للرياضيين، والذي أجري بخصوص الصحة النفسية للرياضيين، كانت النتيجة أنه 34% من الرياضيين المحترفين يعانوا من القلق والاكتئاب، و17% من الرياضيين الجامعيين يعانوا من مرض عقلي، هذا بالإضافة إلى أنه 26% من الرياضيين السابقين يعانون من مرض عقلي ناجم عن آثار رياضتهم. تقول مادي رينكلين إنه جزء لا يستهان به من العينة التي أجريت عليها الدراسة عانى من الاكتئاب بسبب الضغط الجماهيري على السوشيال ميديا.
عالم الاجتماع "وان" الذي تحدثنا عنه في البداية، يقول: "تذكر أهم فوز رياضي لفريقك…وتذكر وماذا حدث بعده؟ في الغالب سينتابك شعو الفرح لبعض الوقت، ثم ستذهب للخلود للنوم ومتابعة حياتك الطبيعية في اليوم التالي، وهي نفس الخطوات في حالة الخسارة".
لم أجد أصدق من إجابة محمد عامل القهوة، عندما سألته بالعامية المصرية: "إيه اللي جايلك من ورا الأهلي يا محمد يعني؟ كل سنة تروح كاس العالم وفجأة تلاقي نفسك خسران".
أجابني: " بص الأهلي ده أنا بتعامل معاه زي أمي، بحبه كده بدون ما أعوز منه مصلحة، ولما بيخسر بعتبر إنه أمي بتقسي عليا شوية وأقول عادي...ما ياما فرحتني…ومصيرنا نتخاصم شوية ونرجع سمنة على عسل".
دون أن يقرأ محمد علم الاجتماع، ودون أن يغوص في نظريات علم النفس، يخبرنا أن نشجع دون أن نتمادى، أن نحب الرياضة وقيمها التي تضيفها لنا حقًا، وأن نكرهها عندما تخرج منا ومن المجتمع أسوأ ما فيه.