1. قول

وئام وهاب.. عصر ملوك الطوائف

18 ديسمبر 2024
(الترا صوت) وئام وهاب
سلمان عز الدينسلمان عز الدين

تسلى السوريون كثيرًا بعروض "الشقلبة" التي قام بها عدد معتبر من رموز عهد بشار الأسد الساقط. ربما لا تعتبرون الأمر مهمًا، وربما تكونون على حق في ذلك، لا سيما وأن هؤلاء المنقلبين قد أعفونا حتى من الشماتة، إذ وضعهم أداؤهم البائس في موضع الشفقة، حتى أن بعضنا قد انتابه خجل نيابة عن بعضهم.

لكن في الأمر كوميديا من نوع ما على كل حال، وثمة كثير من الكوميديا ينجح في انتزاع الضحكات، بل والقهقهات، دون أن يكون مستندًا، بالضرورة، إلى مادة دسمة، أو منطويًا على مفارقات عميقة تستحق التأمل.

لا تنكروا، مثلًا، أن خروج دريد لحام على إحدى القنوات العربية ليعلن انقلابه المفاجئ، والمتأخر جدًا، على بشار وعهده (بعد أن سقط بشار وعهده طبعًا) قد كان واحدًا من أفضل أدواره الكوميدية في الثلاثين سنة الأخيرة، إن لم نقل إن هذا كان دوره الكوميدي الناجح الوحيد منذ أن خلع طربوش "غوار الطوشة".

معظم المتشقلبين لم يكتفوا بإعلان اكتشافهم المتأخر لظلم النظام المخلوع وظلامه، بل صاروا مناضلين بأثر رجعي، وراحوا يتحدثون عن أشياء فعلوها ومواقف عظيمة لطالما أعلنوها، غير أنهم في الحقيقة قاموا بهذه الأفعال واتخذوا هذه المواقف في سرهم، بينهم وبين أنفسهم، في أحلام نومهم أو يقظتهم، بالتالي ليس من شهود عليها إلا هم، أما الأفعال والمواقف الحقيقية فقد جرت أمام ملايين الشهود، وظهورهم بمظهر من لا يعرف هذه البدهية أضفى على "مراجعاتهم الفكرية" مزيدًا من المسحة الكوميدية.

خروج دريد لحام ليعلن انقلابه المفاجئ، والمتأخر جدًا، على بشار وعهده، كان واحدًا من أفضل أدواره الكوميدية في الثلاثين سنة الأخيرة، إن لم نقل إن هذا كان دوره الكوميدي الناجح الوحيد منذ أن خلع طربوش "غوار الطوشة"

عندما تتالت "الشقلبات" وتكاثرت لتطال عددًا من أقرب المقربين لبشار، قلت لنفسي بأنني لن أفاجأ إذا ما خرج بشار نفسه وأعلن أنه كان معارضًا مستترًا لحكمه، وأنه لطالما نبّه نفسه ونصحها دون أن يجد من "نفسه" آذانًا مصغية. قلت إن أحدًا لن يفاجأني بعد. لكن أعترف أن وئام وهاب قد فاجأني مع ذلك. ليس لأنني أعرف في الرجل مبدئية صارمة (لا سمح الله)، وليس لأنني ظننته أذكى من ذلك، وإنما ببساطة لأن الرجل بدا ثقيلًا على هذه الحركات. و"ثقيل" لا تحمل أي بعد مجازي هنا. أجل فهمّة الرجل الثقيلة جعلتني أعتقد أن حركات الجمباز القاسية ستكون صعبة عليه وخاصة وهو في هذا العمر، وكذلك فقد غشني تجهمه الشديد الدائم، وعصبيته الموصوفة وتجرؤه على أسماء ورموز في بلاده وفي بلاد أخرى.. كلها سمات جعلته في نظري غير قادر على هذا "التكويع" الحاد والسريع.

ظهر وهاب في لقاء تلفزيوني على قناة "الجديد" اللبنانية، وسارع في البداية إلى إسكات محاوره ليوضح أمرًا جوهريًا قبل استئناف الحوار. والأمر الجوهري هو أنه ـ أي وئام وهاب ما غيره ـ مستعد لأن يقدم على فعل القتل من أجل "عشيرتي وطائفتي" فما بالكم بـ"المشي مع بشار"؟ واجترح وهاب نظرية يحسده عليها أمهر صناع نظريات المؤامرة، إذ تحدث عن "مشايخ" يحكمون الطائفة ويقومون بتوزيع الأدوار على السياسيين، وكان من نصيبه، مع طلال أرسلان، أن يلعبا الدور الذي لعباه، أي الانخراط في حلقة مريدي بشار!

واستأنف سريعًا، وقبل أن يتيح لمحاوره طرح أسئلته، مؤكدًا أنه لم يستفد من النظام السوري ولا من رئيسه المخلوع في أي شيء، لم يحصل على أي مكسب شخصي، فقط هو كان يحمي الطائفة في سوريا، مذكرًا بأنه ساهم في الإفراج عن الكثير الكثير من المعتقلين لدى النظام (من أبناء الطائفة حصرًا بالطبع)، ولم يذكر اسم موقوف واحد من هؤلاء، ليس لضعف في الذاكرة على الأرجح، بل لأن تأليف الأسماء أمر متعذر في بيئة ضيقة كهذه. وختم مقدمته الطويلة "الجوهرية" بملاحظة تقول إن "بشار لو لم يهرب لما كنت قلت في حقه أي كلام".

ثم أتاح، أخيرًا، الفرصة لمقدم البرنامج كي يقدم الأسئلة، لتنهال الإحابات الصادمة، والتي قال فيها وهاب ما لم يقله الأكثر جذرية من بين خصوم بشار في المعارضة السورية، فبشار "جوع العلويين وضغط على الدروز وأهمل الجيش، واكتفى بالجلوس مع زوجته وحماته من أجل التخطيط لسرقة التجار والنصب على الأثرياء، ثم نهب البلد وهرب أمواله إلى الخارج وهرب".

ولكن لماذا التوقف عند هذا المُنقلِب تحديدًا؟ لماذا لا نعتبر إطلالته مجرد كوميديا أيضًا؟ ربما لأنه نموذج معبر بدقة عن خطاب خطير ساد في عصر بشار ولم يسقط معه.. خطاب شرعن وأدلج لسيولة الحدود التي عشناها وما نزال، حيث استباحت الميلشيات الطائفية حدود الدول الوطنية ورفعت شعارات وأطلقت مشاريع ما هي إلا إعلان صريح لوصول انحطاطنا العربي المديد إلى قاع غير مسبوق. ونعرف بالطبع أن وهاب مجرد بيدق صغير في لعبة الميلشيات الكبيرة، غير أنه الصوت الأعلى والأصرح والأغزر في إطلاق صيحات التبشير والتخويف.

في لقائه هذا، كما في لقاءاته السابقة كلها، شطب الرجل، وببساطة متناهية، واقعة تاريخية عمرها مئة عام، وهي الدولة الوطنية، ووضعنا في عالم أشبه بالغابة ليس فيه إلا عشائر وطوائف متصارعة، وبالطبع فالطوائف الكبيرة سوف تنهش الصغيرة حتى تفنيها. وهو لم يكتف بجعل الهوية العشائرية الطائفية الحقيقة السياسية الأكثر رسوخًا، بل أنه صعد بهذه الهوية إلى مصاف مفهوم الأمة عند الفاشيين والنازيين. فالطائفة كيان جوهري أزلي وأبدي ومقدس بالطبع، وفي سبيله تكتسي كل الأفعال، حتى الجرائم، سمة أخلاقية.

وهنا يغدو من البراءة الزائدة، وربما السذاجة، أن نسأل الرجل: وهل حماية عشيرتك تبرر الانخراط في مشروع يهدف إلى قتل الآخرين؟!

غير أن السؤال الأهم هو الذي ينبثق من سياق منطق (بالأحرى: لا منطق) وهاب: وهل أجدى تدخلك ودورك في حماية الطائفة من عسف بشار؟ لقد أوحى وهاب أنه جعل بشار أداة في يده لحماية الطائفة، والواقع عكس ذلك تمامًا، إذ كان هو مجرد أداة بيد النظام البائد لتحريض الدروز على الانخراط في صفوفه، أداة ألحقت ضررًا بالغًا، وأتعبت الحراك المعارض في السويداء حتى تمكن من تطويقها وإبطال مفاعيلها الخطيرة. ولحسن الحظ فإن جهود الرجل قد باءت بالفشل أخيرًا، ليتحول هو وحزبه وخطابه إلى مفردات مكروهة في الساحة السورية، وخاصة في مناطق عشيرته!

وأما عن تقسيم الأدوار، الذي أوحى وهاب بأنه انصاع شبه مكره إليه، فهو ادعاء مضحك. وهو هنا يلعب على خرافة شائعة عن الأقليات الصغيرة، والتي بحكم وضعها الاجتماعي والعقائدي أغرت الكثيرين، وبينهم منتمون لها، بنسج أوهام وخرافات كثيرة حولها، وأهمها أن كل منها محكوم بمجلس ديني سري، مطاع ومقدس، يملي على الجميع قرارات ملزمة تخرج من غرف مغلقة ومظلمة.. ادعاء وهاب القائم على هذه الخرافة تدحضه أدنى معرفة بواقع حال الطائفة والمجتمع السوري. فالدروز كانوا مثل بقية المكونات السورية، وجرى عليهم ما جرى على غيرهم، تباينوا في المواقف والرؤى وانقسموا في الآراء. كان بينهم موالون ومعارضون، طائفيون وقوميون ويساريون.

ونتذكر أن الموالين منهم كانت لهم الكلمة العليا في بداية الثورة، إلى أن استطاع الحراك المعارض في السويداء، وبعد دأب شديد وتضحيات جسيمة، أن يعدل الكفة ثم يرجحها تمامًا لصالحه، ولا سيما مع الانحياز المبكر من أهم مرجعية دينية درزية، الشيخ حكمت الهجري، لمطالب الثورة ولجهود الحراك، وخاصة لشعاراته الوطنية العابرة للمناطق والطوائف.

زعم وهاب عن تقسيم الأدوار يشبه الحركة الأخيرة التي يقدم عليها الساقط في هاوية: يتشبث برجل خصمه كي يوقعه معه، فإذا كان هو قد لعب، مجبرًا، هذا الدور الممالئ لبشار فإن موقف وليد جنبلاط المعارض كان مجرد دور أيضًا.. ومن يدري ربما يمتد توزيع الأدوار ليصل كمال جنبلاط الذي، حسب نظرية وهاب، كان مقتله على يد نظام حافظ الأسد مجرد دور أيضًا! نكتة سمجة من تلك التي اعتاد زعيم حزب التوحيد إطلاقها دون أن تضحك أحدا سواه.

 أما إلحاحه الوسواسي على عدم استفادته الشخصية من النظام فيوحي بعكس ذلك، واستجلاء الأمر لا يحتاج إلى كثير عناء. يكفي حد أدنى من معرفة التركيبة السياسية اللبنانية وحجم وهاب الأصلي فيها لنعرف أي دعم مادي ومعنوي ومخابراتي تلقاه من النظام وحلفائه ليغدو ما هو عليه اليوم: ناطق باسم محور طويل عريض، ومدع لزعامة عشيرة وطائفة!.

نقطة أخيرة: "لو لم يهرب لما كنت قلت في حقه أي كلام".. المشكلة إذن أنه هرب. وكان وهاب يريده أن يقاتل حتى آخر سوري، حتى ولو احتاج إلى ضرب الكيماوي مرة أخرى.. عندها كان الممانع اللبناني الكبير سوف يستمر بالتصفيق له وكان سيخفي عنا فضائحه وبلاويه التي يتبين أنه يعرفها جيدا. وهذه نقطة تكشف عن أمرين عند وهاب: مفهومه للسياسة، وحسه الأخلاقي!

كلمات مفتاحية

بين مرايا الدم وأقلام الحياد.. خيانة المثقف العربي لقضاياه

لم تعد غزة مجرد جغرافيا محاصرة، بل غدت اختبارًا أخلاقيًا للإنسانية، ومرآة تعكس نفاق المجتمع الدولي وعجزه عن وقف المجازر المرتكبة على مرأى ومسمع من العالم.

رغم الخسائر والضغوط.. لماذا تتجنب مصر استهداف اليمن عسكريًا؟

تمثل العلاقات المصرية اليمنية حالة استثنائية شديدة التمايز والخصوصية، إذ يربط البلدين قائمة مطولة من القواسم المشتركة، المتنوعة بين الثقافي والسياسي والجغرافي

بعد نصف قرن... هل غادر لبنان "بوسطة الموت"؟

عشية الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، كان متحف "نابو"، في شمال لبنان، يجهّز مساحة في حديقته تتعدّى الزمان والمكان، خصّصها لحفظ بوسطة عين الرمانة، أو "بوسطة الموت"، كي "تكون الحرب عبرة وتحفيزًا لكتابة تاريخ حرب لبنان"

TEST TEST TEST

test test final

image

test 3

سياق متصل

وقف إطلاق النار في لبنان يهتزّ... الجيش اللبناني يلتزم بالـ"ميكانيزم" وقلق من تسخين جديد للجبهة