المصريون.. أسطورة الأفارقة الذين لم يعودوا كذلك
29 ديسمبر 2015
المصريون غاضبون من بناء سد النهضة. كانت البلاد في كل كتب التاريخ هامشًا على متن النهر، كل شيء فيها، كل تجمع وكل نشاط كان يدين بالفضل لتلك المياه الجارية، لم يبالغ هيرودوت حين قال إن "مصر هي هبة النيل"، فقد كانت ولا تزال كذلك فعلًا، لذلك يمكنك، بقليل من الخيال، تصور قرار من مشغلي السد يؤثر على الحصص المائية لدولة المصب، التي لا مورد لها غيره تقريبًا. سيتأثر كل شيء وكل شخص، مياه الشرب والري والصناعة، المنتج والمستهلك، الأغنياء والفقراء، باختصار لن يكون ما قبل كما بعد، الغضب مفهوم إذًا من منطق "براغماتي" بحت، مفهوم ومطلوب للغاية كذلك.
تدريجيًا، فقد المصريون أي إحساس بالانتماء لأفريقيا رغم الحقيقة الجغرافية وانحسر الحديث عنها في الفضاء السياسي والثقافي
في خلفية المشهد، ثمة عنصر خفي في هذا الغضب يعرفه الجميع ولا يبوح به أحد، وهو هنا لا يتعلق بالباني ولا بالبناء نفسه، فلو كان الأمر بيد الأوروبيين في كل هذا لكان الأمر مفهومًا ولدخل ضمن سرديتنا المفضلة عن الإمبريالية الحاقدة المتآمرة على البلاد والعباد الراغبة في التحكم في ثروات الأمم، أما أن يقيمه أولائك "الأفارقة، السود، الفقراء.."، فذلك أمر عصي على الفهم.
في مكان آخر، وفي إحدى وسائل النقل العمومية في مصر تحديدًا، أحدهم على خلاف مع أحد الركاب حول أولوية الصعود إلى الحافلة سرعان ما تحول إلى مشاجرة من جانب واحد، بالطبع تلقى خلالها الأفريقي سيلاً من السباب مصحوبًا بكثير من التلميحات، فيما باقي الركاب يتابعون الأمور في صمت مؤيد. في الأثناء، امرأة على قدر من الجمال تسير إلى جوار رجل "بشرته داكنة"، تتلاقى الأعين ويتبادلان الضحكات في سعادة لا يعكرها غير نظرات التعجب والاستهجان: "دي والله العظيم خسارة فيه"، يقولها أحدهم فيما يوافقه الآخرون بإيماءة مشجعة.
ليس هناك الكثير من الإحصاءات الموثقة للعنصرية ضد "أصحاب البشرة السوداء أو الداكنة" في مصر، أو البلدان العربية عمومًا، أو حجمها، وإن كان هناك العديد من التقارير الصحفية والشهادات الشخصية التي تروي مواقف تعرض فيها الأفارقة للتمييز.
في تموز/يوليو 2014، نشر موقع atlanta blackstar تقريرًا يتحدث عما اعتبرها مفارقة كيف أن ست دول أفريقية يلاقي فيها "أصحاب البشرة الداكنة" الكثير من المصاعب بسبب لون بشرتهم. يتحدث التقرير عن مصر وليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا والمغرب، دول شمال أفريقيا العربية تحديدًا. وفيما يخص مصر، ذكر التقرير كيف أن "المصريين السود" والمهاجرين من أفريقيا "يواجهون العنصرية والتمييز بشكل يومي"، وأضاف الموقع أن "العمال المهاجرين من بوركينا فاسو، وغانا، والسودان، والكاميرون، والنيجر، وتشاد يعانون أحيانًا من الاعتداءات على أيدي المصريين، حيث يتم قذفهم بالحجارة، أو البصاق على وجوههم في الشوارع، وأحيانًا يتعرضون للتحرش اللفظي ويطلق عليهم سمارة".
اشتكى البعض كذلك، وفقًا للتقرير، من تعرضهم أحيانًا لاعتداءات علي أيدي السكان في الشوارع، أو تعنت بعض الموظفين الحكوميين، وقد يمتد الأمر أحيانًا ليشمل "المصريين السود" أنفسهم، كالنوبيين مثلًا، ويسرد التقرير واقعة حدثت في 2013، رفضت إحدى صيدليات وسط القاهرة تقديم الخدمة للمواطنة النوبية "ندى زيتون" لأن الصيدلي يرفض أن يستلم الأموال من "الأيدي السوداء"!
ثمة حادثة شهيرة حاضرة في الذاكرة الأفريقية، ففي كانون الأول/ديسمبر 2005، تعرض اعتصام للاجئين السودانيين في ميدان مصطفى محمود للفض، قُتل ثلاثة وعشرون، فيما جرح آخرون، واعتقلوا وتعرض بعضهم للترحيل، كان من بين المبررات التي ساقتها الرواية الرسمية وقتها أن سكان المناطق المجاورة للاعتصام قد اشتكوا من الأوبئة والأمراض وقلة النظافة وهو ما يبدو أنه يعكس جانبًا من الصورة التي يحملها المصريون عن الأفارقة.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، قتل خمسة عشر سودانيًا على الحدود بين مصر وبين فلسطين المحتلة. قالت الرواية الرسمية إنهم قتلوا في تبادل لإطلاق النار بين قوات الأمن ومهربين أثناء محاولتهم اجتياز الحدود لإسرائيل. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، لكن ارتفاع عدد القتلى، وتزامن الحادثة مع أنباء متداولة عن إيقاف وتعذيب مواطنين سودانيين بمصر، ساهم في تأزم العلاقات بين البلدين في وقت شديد الحساسية، أي قبل أيام من جولة جديدة من المفاوضات الثلاثية المصرية السودانية الأثيوبية حول سد النهضة.
أما على الشاشات فتبدو الأمور أكثر وضوحًا، فالسينما المصرية، التي يجدر بها أن تحارب العنصرية، تحفل بعديد الإشارات في هذا السياق. السوداني تاريخيًا في السينما المصرية إما "بواب" أو "سفرجي" أو خادم، بل يمكن القول إن هذه المهن سينمائيًا اقتصرت على السودانيين أو الجنوبيين عمومًا.
السوداني تاريخيًا في السينما المصرية إما "بواب" أو "سفرجي" أو خادم، أو يمكن القول إن هذه المهن سينمائيًا اقتصرت على السودانيين أو الجنوبيين
انطبعت تلك الصورة في الوجدان المصري. اليوم في العام 2015، يمكن أن تشاهد إعلانًا لإحدى الشركات يطلب عمالًا مفضلًا أن يكون المتقدم سودانيًا أو نوبيًا، هذا دليل آخر على النظرة الفوقية التي ينظر بها المصريون للأفارقة عمومًا، بقيت النظرة التمييزية للأفارقة في السينما وتقلصت في مهن أخرى، وصار لون بشرتهم موضعًا للنكات الكوميدية ووسيلة مضمونة لانتزاع الضحكة من الجمهور الذي يسعده الاستهزاء بكل شيء تقريبًا.
بالطبع لا يتبنى المصريون العنصرية كأيديولوجية واضحة، وربما لا يكونون كبعض المجتمعات التي تمارس العنصرية بصورة أكثر فجاجة، غير أنها تمثل في لاوعيهم سلوكًا تمييزيًا نابعًا من موروثات ثقافية ومجتمعية، تعود ربما إلى الحقبة الاستعمارية أساسًا. وهذا التمييز ضد أصحاب البشرة الداكنة هو جزء من سياق أوسع يميز، بدرجات متفاوتة، ضد فئات أخرى كالمرأة، الأقباط، المتدينون بنمط يخالف التدين الشعبي السائد، وهذا جزء من مأساة الاستخفاف بالقيمة البشرية عمومًا، كما أنها إحدى مظاهر تردد هوياتي متعدد الأوجه.
تدريجيًا، فقد المصريون أي إحساس بالانتماء لأفريقيا رغم الحقيقة الجغرافية، انحسر الحديث عنها في الفضاء السياسي والثقافي، قلت زيارات المسؤولين الرسمية، المنح الدراسية التي كانت مخصصة للأفارقة أصبحت أقل عددًا، صار التطلع نحو الشمال السمة البارزة في مصر، وإن أردنا التظاهر بالتغيير تطلعنا شرقًا أو غربًا، وفيما كانت أنظار العالم كله ترقب الجنوب في فضول، رأيناه عبئًا علينا وعلى العالم، ورآه غيرنا فرصة واعدة.
اقرأ/ي أيضًا: