بين سوريا وفلسطين.. العدالة واحدة
28 ديسمبر 2024
قد لا تكون تصريحات محافظ دمشق الجديد عن التطبيع مع إسرائيل مهمة أو جدية كما يقول البعض، في إطار النقاش الدائر في مواقع التواصل الاجتماعي بشأنها. وربما لا تعكس موقف حكّام سوريا الجدد من هذه المسألة أيضًا، وقد تكون مجرد كلام عابر فعلًا. لكنها، في جميع الأحوال، مناسبة جيدة لبناء موقف من التطبيع مع إسرائيل أساسه رفض التطبيع معها تحت أي ظرف، وفي أي سياق. هذا موقف بديهيٌ بما يكفي لنشعر عند مناقشته بالغرابة وربما بالحرج، لكن مناقشته أصبحت شائعة منذ إعلان حلفاء إسرائيل الجدد في المنطقة التطبيع بل التحالف معها.
المصادفة اللافتة أن الدولة التي قادت مسار التطبيع مع إسرائيل، هي نفسها التي دفعت نحو التطبيع مع نظام الأسد، وتكفّلت بعملية إعادة تأهيله عربيًا ودوليًا، بل وضغطت لإقناع الغرب والولايات المتحدة الأميركية بتبني هذا التوجه، وقد استجابت بالفعل عدة دول، وكانت أخرى على وشك اللحاق بها لو لم يسقط الأسد.
لمَ فعلت ذلك؟ لأنها، ببساطة، تعارض التغيير وتطلعات الشعوب نحو الحرية وحقهم في تقرير مصيرهم، لدرجة أنها لا تتردد في دعم أي نظام استبدادي لقمع شعبه، بل وتساهم في صناعة أنظمة أخرى في الدول التي نجحت شعوبها في إسقاط حكّامها.
تعلّمنا خلال الثورة السورية أن قضية فلسطين ليست منفصلة عن مسائل الحرية والعدالة والأخلاق والديمقراطية، وأن هذه القيم تشكل الرابط بين الثورة والقضية بغض النظر عمن يمثّلهما
هذا ما كنا نقوله عندما طبّعت الإمارات علاقاتها مع نظام الأسد، وهو ما يجب أن نقوله الآن بشأن التطبيع مع إسرائيل (حتى وإن كان مجرد كلام عابر). فالأخيرة لا تختلف عن النظام المخلوع في شيء. كلاهما يملك العقلية الإجرامية نفسها، ودرجات التوحش نفسها، وعبقرية الشر نفسها أيضًا. كلاهما قتل وحاصر وجوّع وشرّد. قصف نظام الأسد شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية، وحوّل البلاد إلى سجون ومعتقلات سرية مارس السجّانون فيها انتهاكات وفظائع لا يتخيلها العقل البشري.
وكذلك فعلت إسرائيل التي تشن حرب إبادة جماعية على قطاع غزة دمّرت خلالها القطاع وقتلت أكثر من 40 ألف شخص من أهله، وتجوّع من تبقى منهم وتسعى إلى تهجيرهم بعد أن جعلت القطاع غير صالح للحياة البشرية. وذلك عدا عما سبق هذه الحرب من انتهاكات وجرائم مستمرة منذ 7 عقود.
التشابه بين نظام الأسد وإسرائيل يشكل سببًا كافيًا (وإن لم يكن السبب الوحيد) لرفض السوريين التطبيع مع إسرائيل. فمن غير المنطقي على الإطلاق الجمع بين النضال ضد نظام استبدادي وعقد سلام مع نظام استعماري استيطاني يمثل أبشع نماذج الفصل العنصري، ويرتكب إبادة بشكل علني بغزة.
قد يُفسَّر ما سبق على أنه موقف عاطفي، خاصةً في ظل وجود أولئك الذين يتحدثون عن ضرورة أن نكون واقعيين في تعاملنا مع إسرائيل، في سوريا أو غيرها، بحجة أننا عاجزون عن تقديم أي شيء لفلسطين، ولا يجب أن نحارب عنها أيضًا. صحيح، نحن لا نستطيع محاربة إسرائيل وتقديم أي شيء لفلسطين في وضعنا الراهن، لكن لا يجب في المقابل أن نقدّم لإسرائيل ما تريده.
وعدا عما سبق، فإن الموقف نفسه ليس عاطفيًا، ولا يقوم على أساس الدين أو الهوية والقومية والانتماء، وإنما على أساس العدالة التي صاغ بها الشعب السوري خطاباته على مدار 13 عامًا. هذه العدالة تفرض علينا التضامن مع فلسطين وقضيتها، وإلا فإننا سنقع في فخ ازدواجية المعايير بل وحتى النفاق. وأساس هذا التضامن هو رفض التطبيع.
تعلّمنا خلال الثورة السورية أن قضية فلسطين ليست منفصلة عن مسائل الحرية والعدالة والأخلاق والديمقراطية، وأن هذه القيم تشكل الرابط بين الثورة والقضية بغض النظر عمن يمثّلهما وسيمثّلهما. كما تعلّمنا خلال الحرب على غزة أن فلسطين أساس أي موقف أخلاقي، وأن الفلسطينيين لا يريدون منا أن نحارب نيابةً عنهم، بل ألا نكافئ من يقوم بإباداتهم بالتطبيع معه. التطبيع جريمة.
مع انتهاء كتابة هذا المقال، أصدر محافظ دمشق توضيحًا قال فيه إنه لم يتطرق إلى السلام مع إسرائيل، وأن هذا الأمر ليس من اختصاصه وإنما من اختصاص وزارة الخارجية. وهنا أيضًا لا بد من التأكيد على أن مثل هذا القرار الاستراتيجي، وحتى مجرد نقاشه، ليس من صلاحيات أي حكومة انتقالية.