رواية "الصبيّة والسيجارة".. عندما يصبح الإعدام شفاء من الإعدام
26 يوليو 2018
عن "دار مسكيلياني" سنة 2018، بالتعاون مع "منشورات التكوين"، صدرت رواية تحمل عنوان "الصبيّة والسيجارة" للروائي الفرنسي بونوا ديتيرتر ومن ترجمة زهير بوحولي.
جريمة موصوفة: بنطال إلى تحت، سيجارة ومفكّ براغ!!
ماذا لو تضبط صبيّة رجلًا بالجرم المشهود في مرحاض بمبنى البلديّة، جالسًا على الحوض وبنطاله نازل دون أن ينزع تبّانه الداخليّ وبصدد تدخين سيجارة وبيده مفكّ براغ؟!! يتمّ اتّهامه بعد ذلك بالشذوذ وبتهديد الصبيّة ويحال إلى المحاكمة. كلّ تلك المعاناة سببها البحث عن فضاء سريّ للتدخين به تهوئة جيّدة وبعيد عن صفارات الإنذار. "لا يحقّ لأحد التدخين هنا، وذلك لأجل صحّة الأطفال!!" هكذا تخاطبه الصبيّة الغاضبة. يكاد حظر التدخين أن يضايق الحياة الشخصيّة متجاوزًا الحدّ المقبول في الديمقراطيّة.
يجمع بطل رواية "الصبيّة والسيجارة" بين شخصيّتي السيّد ك في "المحاكمة" وغريغور سامسا في "المتحوّل" لفرانتز كافكا
يتحوّل ذلك الموظّف البلديّ المتفاني إلى متّهم ومهدّد بالإعدام ويتخلّى عنه الجميع بما فيهم صديقته لطيفة. متّهم مغلوب على أمره جمع بين شخصيّتي السيّد ك في "المحاكمة" وغريغور سامسا في "المتحوّل" لفرانتز كافكا، والتّي تظهر الإنسان سجين منظومات وعلاقات وقوانين تافهة وكأنّ لسان حال الكافكاويّ يقول "ماذا تريدون، أنا رجل قانون. لهذا السبب لست قادرًا على التخلّص من الشرّ".
اقرأ/ي أيضًا: غونتر غراس وبيير بورديو.. أسئلة الأفواه الكبيرة
ساهمت سياسة رئيس البلديّة الحمقاء بتحويل مبنى إداريّ إلى روضة أطفال، ما تسبّب في إرساء دكتاتوريّة الأطفال. لم تشفع للموظف خطّته العبقريّة التّي عرضها على رئيسه والتّي ستنقذ المدينة من الاكتظاظ والاختناق المروريّين "لم يفكّر أحد في هذه الظاهرة المدهشة: إنّ القيود المفروضة على مسالك المرور في كامل المدينة لم تفعل شيئا سوى مفاقمة الاكتظاظ والتلوّث، وجعل المواطنين-الذّين نريد حمايتهم- أوّل الضحايا".
إفلات ديزيريه جونسون من حقنة الموت
يتواصل سرد الموظّف بصيغة الضمير المتكلّم بالتوازي مع راو عليم يروي قصّة ديزيري جونسون. يصرّح بوب مارلي "لماذا أشرب وأقود السيّارة ما دمت قادرا على التدخين والطيران؟!"، لكنّ التدخين قاتل وممنوع بشدّة في الفضاءات العامة. ورغم ذلك فإنّ ديزيري جونسون صاحب أخلاق الفرسان، والذّي يعني اسمه المشتهى في اللّغة الفرنسيّة، الشاب صاحب جدائل رأس على طريقة الراستا وبوب مارلي والمتّهم بطعن شرطيّ حتّى الموت، يطلب سيجارة قبل أن يعدم بحقنة قاتلة. يقضي الفصل عدد 47 من قانون العقوبات بالسماح للمحكوم بالإعدام في طلب شيء يرغبه قبل الموت. يصبح الإعدام شفاء من الإعدام نفسه.
مارين باتاكي محامية جونسون ذات المواهب المحدودة تطأ بحذائها الرياضيّ السجّاد الأحمر! وتصير ذات صيت بالبلد بدعم من شركة كبرى لصناعة التبغ. تصبح شهوة جونسون قضيّة رأي عام ومحلّ اهتمام الجميع. "التدخين متعة أخيرة" شعار حملة الدعاية وفرصة لوبيّات هذه الصناعة لإنقاذ تجارتهم. جعل فصل قانونيّ منسيّ من السيجارة أفضل صديق للإنسان، وأنقذ شخص من عقوبة الإعدام بواسطة التبغ.
تحالف الحمقى وأكاديميّة الشهداء
لا تسامح مع المدخّنين في هذه المدينة الكونيّة (مسؤول الأمن باكستاني، منفّذ الإعدام فيتنامي، لطيفة مصريّة.. إلخ). المقلعون عن التدخين كالشيوعيّين القدامى، يبدو أن السجائر التّي دخّنوها فيما مضى جعلتهم غير متسامحين. تلك السيجارة بما هي شيء غير مفيد وغير جماليّ تقريبًا، تميّز الإنسان عن الحيوان، والفاصلة عند بعضهم بين الطفولة والرشد. لم يطلب الموظّف البلديّ غير تدخين سيجارة ورؤية البطّ والعيش في حبّ مع صديقته ألم يخبرنا أبيقور أن "لا شيء يجلب لنا متعة أكبر من كوب ماء وقليل من أشعّة الشمس". لكنّه يكره الأطفال ولطيفة تريد الإنجاب ويرفض متعلّلًا "ما الداعي إلى إنجاب طفل؟ لنمسح مؤخرته؟ أم لتربية ناكر للجميل؟".
أبيقور: لا شيء يجلب لنا متعة أكبر من كوب ماء وقليل من أشعّة الشمس
رواية توصّف عبثية وسخافة العالم الحالي وما وصل إليه من انهيار للقيم. السلطة المطلقة وتجييش الأطفال ضدّ البالغين وتلفزيون الواقع الذّي ألهب الرأي العام. في خضم محاكمة الموظّف وظاهرة ديزيريه، تظهر منظّمة إرهابية لتعتقل رهائن وتدرجهم ضمن مسابقة يعدم فيها الخاسر تحت مسمّى أكاديميّة الشهداء وتعرض على قناة اللّه 1. في نبوءة بظهور داعش والمجموعات المسلّحة في الشرق الأوسط. يفدي الموظّف بنفسه أحد الرهائن بعد أن تخلّى عنه الكلّ وفقد عمله وشرفه بعد تحالف الحمقى عليه "أنا لست ضحيّة مؤامرة، بل ضحيّة تراكم للغباء تراكمًا طبيعيًّا" صدق كافكا حين قال أن الأدب: ضربة فأس وسط بحر متجمّد داخلنا.
اقرأ/ي أيضًا: رواية "جنّة الخفافيش".. جنوب السودان بحذافيره
بونوا ديتيرتر كاتب وروائي وصحفي وإذاعي وناقد موسيقي فرنسي، يكتب دوريّا في الفيغارو وباري ماتش ومجلّة "ورشة الرواية". تحصّل على جائزة ميديسيس سنة 2001 عن روايته "الرحلة إلى فرنسا"، وله "خدمة الحرفاء" سنة 2003، و"الصبيّة والسيجارة" سنة 2005. ترجمت رواياته إلى أكثر من عشرين لغة.
اقرأ/ي أيضًا:
مكتبة الطغاة.. الكتاب الأخضر ومخطوطات الأنا الاستبدادية
رواية "ما وراء الأفق الأزرق" لمولود بن زادي.. ألق السرد المهجري