على طرف المجزرة
5 أغسطس 2015
من حيث المبدأ، إن سماعك خبراً عن مجزرة، تحدث في مكان ما، يحيلك إلى التفكير بانعدام الحياة في ذلك المكان وخرابه خراباً تاماً، ولكن إن تعمقت في رسم وتخيل جغرافية المنطقة التي تعيش فيها ستتأكد من أنك وقفت، أو ستقف على طرف مجزرة، أو مجاعة، أو إعدام ميداني.
في الحرب، تختلف معك الجغرافيا على الذكريات
من شباكي المطل على آخر شارع مأهول في منطقة التضامن، في جنوب دمشق، ومباشرةً باتجاه شارع فلسطين، ومن ثم شارع اليرموك، أقف كل يوم وسط صمت أسود يأتيك من هناك. فلا تكاد تسمع صوت عيار ناري، أو قذيفةً، أو أي مؤشر صوتي يدل على الحصار والحرب، أو حتى دلالة على المكان الذي سبقه اسمه إلى العالمية "اليرموك".
وفي بحثك بين المواد الفنية والوثائقية التي أُنتجت خلال الثورة السورية، ستجد بين كل عشرة أفلام واحد أو اثنين يتحدثان عن حصار اليرموك، والموت جوعاً والكوارث التي حصلت فيه، خصوصاً بعد أن تعقدت فيه الأمور أكثر مع تدخل فصائل عسكرية غريبة عليه، وقيامهم باستهداف الكثير من الناشطين الشبان فيه، وحالات الإعدام الميداني التي أصبحت مكررة وشبه مستمرة.
كل هذه الأمور كانت تحدث بصمت كبير يدفعك للتأمل باتجاه المكان هناك، تلك الأحياء التي تغيرت حتى أسمائها بعد أن تغيرت أشكالها، وأصبحت تحت مسمى مناطق منكوبة أو مناطق محاصرة، بل مناطق الموت الرخيص، لربما رغبت بالطيران فوق مائة متر لتبتعد قليلاً عن مكانك، وتلقي نظرة عن كثب وتبحث عن أثر لمجزرة، أبطالها جياع لفها الصمت.
ومن جهة أخرى فإذا مررت من أمام مدخل شارع اليرموك وشارع الثلاثين، فإنك حتماً أمام صورة إسمنتية سوداء صامتة، أبطالها أبنية متهالكة، وبعد أن تجتاز عيناك السواتر الإسمنتية العالية التي بدأ العشب ينبت فيها، ستلاحظ في الخلفية أبنية مدمرة ومحترقة، بعضها مطبق على نفسه، وبعضها الآخر ينتظر دوره في السقوط.
تسترق النظر محاولاً رؤية أي شيء يشير لوجود أحياء في ذاك المكان، فلا ترى إلاّ التراب والفراغ، وتستنتج أن القاسم المشترك لكل ما تخيلته وشاهدته هو السواد والصمت.
هذه المجزرة الصامتة التي قامت المروحيات المحملة بالبراميل المتفجرة باختراقها ونسفها، حين تموجت الأرض تحت أقدامنا بعد أول برميل سقط على مخيم اليرموك، بدأت بعدها مرحلة صمتنا الجديد، بعد أن انتهت مرحلة صمت الشارع هناك، بدأت هنا.
الله أعلم بالذي يحدث الآن هناك. بعد سقوط البرميل السادس كان الأجدى بأن تسقط السماء معه على كل المناطق المنكوبة، فلم يعد هنالك أية نجاة سماوية، أو أرضية، أو فضائية تخيلية يمكنها أن تخرج صرخةً من فوق أرض ميتة.
في الحرب تختلف معك الجغرافيا على الذكريات، وتتناقض مع مخيلتك على سوء فهم الواقع، لترى بأن كل ملكاتك اقتصرت على موهبة التحديق إلى هناك، وانتظار أيّ صوتٍ يأتي معلناً عن حياة تُرجى في المناطق المنكوبة.