قُبلة الرئيس
7 ابريل 2019
لم يثر فيَّ مشهد موكب مرور رئيس الجمهورية شيئًا سوى ذكرى واحدة تعود بي إلى سنوات طويلة مضت. اليوم وأنا أشاهد نشرة الأخبار معلنين فيها عن زيارة قام بها سيادته إلى مدينة تقع جنوب البلاد، وذلك تحضيرًا لحملته الانتخابية التي يقودها وحده دون وجود منافسين.
يومها أغلقت كل المدارس والمعاهد وشلت حركة البلاد، فلا معامل تعمل ولا إدارات ولا مخابز ولا متاجر مفتوحة. الكل محشودون أمام مقر الولاية والطريق الذي تؤدي إليه.
لم أتجاوز ساعتها السادسة عشر، ولم يكن قدوم الرئيس بالأمر الجلل بالنسبة لي، بل صادف لقائي الأول بعزة، قرّرنا يومها أن نلتقي لتصفية حساب طال بيننا. تصغرني عزة ببضعة أشهر. كانت من ألد المنافسين لي في القسم، خاصة في مادة الرياضيات، فقليلًا ما تفلح البنات في هذه المادة وكأنها خلقت للذكور فقط، لكنها كانت تحل المسائل بشكل مذهل وفي وقت قصير. لم أكن أكنّ لها أي مشاعر حبّ، بل كنت أكرهها بسبب تبجحها وغرورها اللذين يزيدان كلما مدحها أستاذ الرياضيات، ولم تتغير مشاعري تجاهها إلا يوم تخلت عن ضفيرتيها وأسدلت شعرها الكستنائي الطويل ملامسًا أسفل ظهرها، يومها لم أنجح في حل أي مسألة حسابية بل ظللت فاغر الفم أمام هذا الجمال الذي انفجر فجأة في وجهي، جاعلًا إياي عاجزًا عن التركيز إلا في شعر عزة، ووجهها المتورد وشفتيها الحمراوين. ليلتها لم تغب عن مخيلتي ولو لثانية، فلم أنتبه لنفسي إلا وأنا أستمني متذكرًا ملامح وجهها وابتسامتها وشعرها ونهدها الذي علا فجأة.
لم أجرأ على مواجهة عزة منذ حصول ذلك التغيير، فكنت أتحاشى النظر إليها وأنا الذي كنت كثيرًا ما أرميها بأغطية الأقلام الجافة، محاولًا استفزازها كلما أخطأت في مادة الإعراب. بعد ثلاثة أسابيع من التغيير الذي طرأ، وصلتني منها رسالة سلمتني إيّاها إحدى زميلاتها: "سترسب هذه السنة إن لم تعد وتركز في الدرس عوضًا عن التركيز فيّ أنا".
جنّ جنوني يومها وأنا اقرأ تلك الرسالة المكتوبة على حافة ورقة، وقرّرت الثأر لكرامتي فرّددت لها على قفا الورقة "لنلتق غدًا عند البنايات التي تقع وراء مقر الولاية وننه الموضوع".
هزت رأسها موافقة بعد أن قرأت الرسالة ثم وشوشت شيئًا لزميلتها وابتسمت لي.
ليلتها وأناأاقفز بين القنوات استوقفني مذيع أخبار النشرة الثامنة، وهو يعلن عن قدوم رئيس الجمهورية في الغد إلى مدينتنا، وأن الكل على قدم وساق من أجل التحضيرات، وقد شدّد المذيع على أهمية توافد كل سكن المدينة وأحوازها والمناطق المجاورة لها لاستقبال سيادته، جافاني النوم تلك الليلة، كيف لي أن ألتقي عزة دون أن يلاحظ أحد وجودنا؟
وقفت أمام أحد المباني منتظرًا قدومها ناظرًا إلى عقارب الساعة التي أبت أن تتحرك من مكانها. مضت نصف ساعة وأنا أحرث الأرض جيئة وذهابًا، بينما تعالت أصوات المستقبلين للرئيس من أمام مقر الولاية غير البعيد عن البنايات أين ضربت موعدًا مع عزة، فكثرت الهتافات وصدحت الفرقة النحاسية بنغم شبه عسكري، ترقص عليه الفتيات بخطوات منتظمة مرتديات زيًا أبيض وأحمر يجمع لوني علم البلاد.
لم أنتبه إلا وهي تقترب مني محاولة إخفاء ابتسامة علت وجهها، وعندما وصلت بادرتني قائلة: "لم أستطع الإفلات من الأهل إلا بصعوبة شديدة، لا أستطيع التأخر".
مع آخر حرف نطقت به علا صوت سيارات الشرطة والدراجات النارية المرافقة لموكب الرئيس معلنة وصوله، لحظتها مسكت يدها وسحبتها راكضين إلى مدخل أحد المباني، مختبئَين أسفل السلالم مخافة أن يرانا أحد المارة المتأخرين عن الموكب.
كان المكان ضيقًا وشبه مظلم تنيره أشعة بسيطة تتسلل من جزء الباب المفتوح، كنا تقريبًا ملتصقين، قالت بصوت تعلوه بحة سببها الخوف: "ها قد أتيت لننه هذا الصراع". تعالت الأصوات خارجًا مانعة صوتي من الوصول إليها، فاقتربت حتى أوشوشها فلامس شعرها الكستنائي وجنتي فالتهبت حمرة، وانفجر فيها الدم إلى أن سرى في كامل جسدي، علت نسبة الأدرينالين وصهل حصاني محدثًا هضبة داخل السروال، ضغطت بقوة على يدها وأنا شبه سكران برائحة شعرها وعطرها، رفعت رأسها واحمرار يعلو وجنتيها سائلة بعينيها عما يحدث، فقلت بصوت متقطع لقد وصل الرئيس مقبّلًا تينك الشفتين لاثمًا ثغرها ضاغطًا بجسمي جسمها، تاركًا يدي تحيطها من الخلف.
منذ ذلك اليوم اختفى رئيس البلاد، ولم يعد يظهر في وسائل الإعلام أو الجرائد والصحف، إلى أن نسي الشعب وجوده حتى يوم تم الإعلان عن نتائج الانتخابات.
أطفأت التلفاز واتجهت إلى الغرفة المجاورة، كان شعرها الكستنائي ملقى على الوسادة بشكل فوضوي، لم تغير فيها السنوات شيئًا، مازالت تحتفظ ببراءة الطفولة، وأنا ما زلت أحتفظ بطعم قبلة الرئيس.
اقرأ/ي أيضًا: